ترامب ــ عباس والاحتفاء بالذات

ترامب ــ عباس والاحتفاء بالذات

07 مايو 2017
+ الخط -
استهل الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، حديثه بالإطراء والمدح للرئيس الفلسطيني محمود عباس في قمتهما في البيت الأبيض، في الثالث من مايو/ أيار الجاري. امتدح ترامب ضيفه بسبب توقيعه الشجاع على إعلان المبادئ في حديقة البيت الأبيض قبل نحو ربع قرن. بالنسبة لترامب، وضع الإعلان "الأسس لسلامٍ ما بين الإسرائيليين والفلسطينيين". وعلى القدر ذاته من الأهمية، قال ترامب لعباس: "قمت أنت بتوقيع أول اتفاقية سلام ما بين الإسرائيليين والفلسطينيين"، وسرعان ما أضاف ترامب دعمه عباس، لأنه "القائد الفلسطيني الذي وقّع باسمه على الاتفاقية النهائية والهامة للسلام، والتي تجلب الأمان والاستقرار والازدهار لكلا الطرفين وللمنطقة برمتها". كل هذا كان بمثابة موسيقى عذبة لأذني عباس، والذي دوما سعى إلى إطراء كهذا؛ إذ تذمر عباس دوما بسبب عدم تلقيه الاعتراف والإطراء الكافي لدوره في التوقيع التاريخي على تلك "الوثيقة الهامة"، حيث أن جل الإطراء ذهب نحو الراحل ياسر عرفات، بما فيها جائزة نوبل للسلام.
وبالتالي، رفعت الملاحظات الابتدائية لترامب في خطابه من منسوب الذاتية عند عباس، والذي يعاني من أزمة عميقة في الشرعية السياسية في الأرض المحتلة، إضافة إلى انتقاد الفلسطينيين سياساته ونهجه، والذي أدّى إلى تحوّلٍ نحو السلطوية القمعية، والذي بدوره أسّس لبناء دولة بوليسية تحت الاحتلال العسكري الإسرائيلي. أثار هذا الاحتفاء الدافئ لترامب بعباس غضب بعض الإسرائيليين وقلقهم. بدوره، بادل عباس ترامب الإطراء والاحتفاء به وبتبنيه النهج الترامبتي (نسبة إلى ترامب) بقوله: "الآن ومعك سيادة الرئيس نملك الأمل". قبل ذلك وفي أثناء كلمته، أثنى عباس على ترامب بقوله: "إننا نؤمن، يا فخامة الرئيس، أننا قادرون بقيادتكم الشجاعة، وحكمتكم وقدرتكم التفاوضية، على إنهاء هذه المعاناة".
بهذا الخطاب والنفاق والاحتفاء بالذات وبالآخر، أغفل الرئيسان رؤية وإدراك الفشل الواضح
لإعلان المبادئ بتحقيق الازدهار والأمن للطرفين (الإسرائيلي والفلسطيني). وكان إعلان المبادئ هذا قد سمح لإسرائيل بتوسيع استعمارها واستيطانها في الأرض الفلسطينية المحتلة، وساهم في تعميق نهج نظام الفصل العنصري والأبارتهايد وبناه وسياساته. وعلى وجه أكثر من الدقة، فإن إعلان المبادئ هذا كان مجرّد اتفاق ترتيب أمني بين المستعمِر والمستعمَر من أجل ضمان أمن المستعمِر، وبالتالي، هو بعيد كل البعد حتى من مجرّد نعته اتفاق سلام.
وبناء على ذلك، شكلت اشتراطات ترامب، في خطابه حول الترتيبات الأمنية ومحارية الإرهاب، النقطة الجوهرية في خطابه في أثناء لقائه عباس. وتتساوق هذه الاشتراطات مع المطالبات والرؤى الإسرائيلية، وكذلك أيضاً مع العقيدة الأمنية للسلطة الفلسطينية المدفوعة من المانحين الدوليين، فقد صرح ترامب وبكل وضوح: "علينا الاستمرار في شراكتنا مع قوى الأمن الفلسطينية، من أجل محاربة الإرهاب والقضاء عليه". ثم أضاف ترامب إن المؤسسات الأمنية الفلسطينية والإسرائيلية "تعملان بانسجامٍ لا يصدّق... وتعملان بشكل جميل مشترك". أثارت التصريحات هذه غضب فلسطينيين كثيرين. أما عباس، ومن دون أن يشكل ذلك أي مفاجأة، فقد هزّ رأسه قبولاً طوال المؤتمر الصحفي؛ إذ أنه يؤمن بقدسية التنسيق الأمني، وبالمصلحة الوطنية الفلسطينية المتأتية من هذا التنسيق الأمني المقدّس.
وفي حقيقة الأمر، تعني هذه الشراكة التي تحدث عنها ترامب تجريماً إضافياً للمقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي. وتعني، أيضا، زيادة سطوة الأجهزة الأمنية والمؤسسة العسكرية الفلسطينية على الفلسطينيين، وعلى نضالهم من أجل تقرير المصير. وبالتالي، تظهر هذه الشراكة المزعومة جلياً في تمويل التحولات السلطوية القمعية ورعايتها، وهي التحولات التي رافقت مشروع بناء الدولة، خصوصا على مدار السنوات العشر الماضية.
وبموجب استطلاعات الرأي كلها، ترفض الأغلبية العظمى من الفلسطينيين هذا التنسيق الأمني "المقدّس" ما بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل. وهذا الرفض هو أحد العوامل المركزية المساهمة في تجذّر فجوة الشرعية ما بين الفلسطينيين والنخب السياسية والأمنية الفلسطينية وتعمقها. ولكن، كما هو واضح، فلا عباس ولا ترامب معنيان بتطلعات الشعب الفلسطيني وآماله ومطالبه، فكلا الرئيسين يفشلان في فهم أن أي اتفاق سلام مستدام يحتاج، قبل أي وكل شيء، موافقة الشعب وإجماعه وتبنيه هذا الاتفاق. وبالتالي، فإن تحقيق السلام، بعكس ما يدّعي ترامب وعباس، هو أعقد من مجرّد توقيع وثيقة أو اتفاقية أو ورقة.
أضف إلى ذلك، وأسوة بالإدارات الأميركية السابقة، يفهم ترامب نهج "الصفقة الكبرى" من
خلال منظور أمني اقتصادي. وبالتالي، هو مصمم على المشي في دربٍ مشى فيه كثيرون قبله، وفشلوا من أجل تحقيق سلام اقتصادي مدفوع بثقل المؤسسات الأمنية. يرفض ترامب إدراك أن المساعدات المالية الاقتصادية والمساعدات الدولية برمتها لن تستطيع شراء السلام. ويمكن لإدارة ترامب الحالية النظر إلى الفشل الذي سطرته إدارة أوباما في هذا المضمار لتعلم بعض الدروس، فمجرد استرجاع بسيط لمبادرة فلسطين الاقتصادية، والتي قادها وزير الخارجة الأميركي السابق، جون كيري، توفر أمثلة ودروساً عديدة لفهم حتمية فشل "الفرص الاقتصادية الجديدة" في ظل الإطار الأميركي العام للعملية السلمية، وفهمها للسلام بوصفه صفقة كبرى، فالعكس تماما هو الصحيح؛ إذ لا تعدو هذه "الفرص الاقتصادية الجديدة"، في ظل الإطار والنهج الحالي، كونها أدوات تديم وتجذّر حال الواقع الراهن، والذي ينكر الحقوق الإنسانية والعدالة والمساواة والحرية.
أنهى ترامب مؤتمره الصحفي مع عباس بالقول: "سنبدأ عملية، نأمل منها الوصول إلى سلام". لم يعرّف ترامب ماهية العملية، أو محدّداتها وأسسها، ولم يذكر الدولة الفلسطينية أو حل الدولتين، وقد أفنى عباس حياته ومشواره السياسي من أجلهما. وقد أجاب عباس بالقول: "حسنا- أوكي". وبالتالي، وافق على "البدء بعملية" وأقرّ المضي في الذهاب برحلة نحو السلام تحت قيادة ترامب.
هذا السلام إشكالي، فبالنسبة لترامب، ولمعظم الإدارات الأميركية السابقة، لا يتعدّى السلام كونه الأمن والأمان لإسرائيل، إضافة إلى الاستقرار السياسي. بالنسبة للقيادة السياسية الإسرائيلية، وكما هو واضح للعيان، بموجب الحقائق التي أحدثوها على الأرض، السلام يعني الضم والتوسع والاستعمار والفصل العنصري. أما بالنسبة للقيادة الفلسطينية غير المنتخبة وغير الممثلة، السلام يعني تجذّر الانتفاعات الاقتصادية المادية، والسلطة الحقيقة أو الوهمية. وبالتالي، القيادة الفلسطينية الحالية غير قادرة أو راغبة في تعلم الدرس البسيط المدعّم بدلائل وقرائن كثيرة، والمتمثل في أن الولايات المتحدة هي سمسار وراع للسلام غير نزيه، فالخطوة الأولى لتحقيق السلام تتطلب البدء بعملية تفكيك للاستعمار، ولنظام الفصل العنصري، وإنهاء الاحتلال العسكري الإسرائيلي. ولكن ترامب وعباس ونتنياهو غير قادرين وغير راغبين في السير في هذا الطريق. نعم، من الممكن أنهم سينشغلون في عمليةٍ ترضي ذواتهم وفانتازيتهم الأيديولوجية. ولكن، من المؤكد أن ذلك لن يحقق سلاماً عادلاً ومستداماً. فهذا الأمر سيكون من وظيفة الجيل القادم من القادة.
F5CB8409-A449-4448-AD7A-98B3389AADB7
علاء الترتير

كاتب فلسطيني، مدير البرامج في شبكة السياسات الفلسطينية، وباحث في المعهد العالي للدراسات الدولية والتنمية في جنيف. عمل باحثاً ومدرّساً في جامعة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية والتي حصل منها على الدكتوراه.