تراجع حماس عن تديين الصراع

تراجع حماس عن تديين الصراع

06 مايو 2017
+ الخط -
ركّزت تحليلات دولية وعربية لوثيقة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) الجديدة على أبعادها السياسية، وخصوصاً على ما يتعلق بقبول دولة على حدود عام 1967 من دون التنازل عن فلسطين التاريخية، وفك الارتباط التنظيمي مع جماعة الإخوان المسلمين، وهو تركيز له أسبابه المهمة، بحكم أن الوثيقة سياسية الطابع بالأساس، وهي مصوغة لتطوير أداء حماس ومكانتها سياسيا في المقام الأول.
على الجانب الآخر، أكثر ما يستوقف في الوثيقة هو التغييرات الفكرية أو الإيديولوجية التي انطوت عليها، وخصوصا فيما يتعلق بدور الدين في تصور "حماس" نفسها والصراع وعلاقتها بالعالم وبالداخل الفلسطيني. فعلى سبيل المثال، اشتمل ميثاق عام 1988 على أكثر من ثلاثين آية قرآنية، استخدمتها "حماس" لشرح مواقفها وتبرير هذه المواقف تجاه قضايا مهمة عديدة، مثل تعريف الحركة نفسها، وبنيتها وعلاقتها بالعالم، وأهدافها واستراتيجيتها، وموقفها من المبادرات الدولية، ودور المرأة فيها، وغيرها من القضايا التي تضمنها الميثاق، كما طغت على الميثاق اللغة الفضفاضة، كالقول مثلا عند الحديث عن بنية الحركة وتكوينها "تتكون البنية الأساسية لحركة المقاومة الإسلامية من مسلمين أعطوا ولاءهم لله، فعبدوه حق عبادته، وعرفوا واجبهم تجاه أنفسهم وأهليهم ووطنهم، فاتقوا الله في كل ذلك، ورفعوا راية الجهاد".
في المقابل، خلت الوثيقة الجديدة من الإشارة إلى أي أية قرآنية، وجاءت أقصر بكثير من الميثاق، ومكتوبة بلغة سياسية أكثر دقةً وقانونيةً وحقوقية، تركز على طبيعة الحركة "كحركة تحرّر ومقاومة"، وعلى فلسطين "كقضية شعب عجز العالم عن ضمان حقوقه واسترداد ما اغتصب منه"، كما تقول الوثيقة في سطورها الأولى.
وبهذا تتراجع اللغة الدينية لصالح اللغة السياسية، وتتراجع الهوية "الإسلامية" لصالح الهوية
"الإنسانية" للصراع في خطاب "حماس"، وهذا لا يعني أن الحركة تخلت عن طبيعتها الدينية، حيث أكدت الوثيقة على "إسلامية" حماس، وعلى أن "مرجعتيها الإسلام في منطلقاتها وأهدافها ووسائلها"، ولكنها انفتحت، في تفسيراتها الإسلامية والسياسية، على القواسم الإنسانية المشتركة، حيث توضح مثلا أن "رسالة الإسلام جاءت بقيم الحق والعدل والحرية والكرامة.. وأن الإسلام ضد جميع أشكال التطرّف والتعصب الديني والعرقي والطائفي"، وتقول أيضا إن "القضية الفلسطينية في جوهرها قضية أرض محتلة وشعب مهجر"، وأن قضية اللاجئين حقٌّ "تؤكده الشرائع السماوية والمبادئ الأساسية لحقوق الإنسان والقوانين الدولية".
انعكست لغة حماس الجديدة بوضوح فيما يتعلق بعلاقتها بالعالم والأديان الأخرى، حيث خلت الوثيقة من أي إشاراتٍ سلبيةٍ لليهودية أو للمسيحية والغرب، كما كان في ميثاق 1988 الذي وصف الغرب بأنه "صليبي"، وحذّر الدول العربية والإسلامية من "الغزوة الصليبية" التي "لا تتورع عن سلوك كل الطرق، مستخدمة جميع الوسائل الخسيسة"، بما في ذلك المنظمات السرية ومجموعات التجسّس التي "تعمل لصالح الصهيونية وبتوجيه منها، وتهدف... إلى القضاء على الإسلام".
أما الوثيقة الجديدة فتصف المشروع الصهيوني بأنه "معادٍ للإنسانية"، وتؤكد "أن الصراع مع المشروع الصهيوني ليس صراعا مع اليهود بسبب ديانتهم"، وترى أن تديين الصراع من أعمال الاحتلال وقادته، كما تعرّف الوثيقة القضية الفلسطينية بأنها "قضية ذات أبعاد إنسانية ودولية كبرى، وإن مناصرتها ودعمها هي مهمة إنسانية وحضارية تفرضها مقتضيات الحق والعدل والقيم الإنسانية المشتركة"، وهكذا يمتد تراجع هوية الهوية "الإسلامية" و"الدينية" للقضية الفلسطينية لصالح الهوية "الإنسانية".
وانسحب موقف "حماس" المتراجع عن تديين الصراع أيضا على مواقفها الداخلية، حيث نظر ميثاق 1988 للعلاقة مع منظمة التحرير الفلسطينية من منظور ديني واضح، حيث يقول مشتكيا "تبنت المنظمة فكرة الدولة العلمانية وهكذا نحسبها، والفكرة العلمانية مناقضةٌ للفكرة الدينية مناقضةً تامة، وعلى الأفكار تبنّي المواقف والتصرّفات، وتتخذ القرارات". لذا، يقول الميثاق "يوم تتبنى منظمة التحرير الفلسطينية الإسلام كنهج حياة، فنحن جنودها ووقود نارها التي تحرق الأعداء".
أما الوثيقة الجديدة فتقول "تؤمن حماس وتتمسّك بإدارة علاقاتها الفلسطينية على قاعدة التعدّدية
والخيار الديمقراطي والشراكة الوطنية وقبول الآخر واعتماد الحوار"، و"تؤكد حماس على ضرورة بناء المؤسسات والمرجعيات الوطنية الفلسطينية على أسس ديمقراطية راسخة".
وبهذا، تتخلى "حماس" عن فكرة تديين منظمة التحرير الفلسطينية أو "أسلمتها"، وتعلن قبولها التعدّدية، بمعنى أن تقبل أن يتكون المجتمع السياسي الفلسطيني من كياناتٍ سياسيةٍ، ذات توجهات إيديولوجية مختلفة متعايشة، تحتكم إلى الديمقراطية، ولا تسعى إلى القضاء على الآخر في تأكيدٍ واضح على الأفكار الديمقراطية والتعدّدية الغائبة عن ميثاق 1988.
ويقول متابعون كثيرون في الداخل والخارج، وكذلك قادة "حماس"، إن الأفكار السابقة هي نتيجة لتطور الحركة في الفكر والممارسة خلال العقود الأخيرة، ويقول قادة "حماس" إنهم أصدروا الوثيقة بقناعات شخصية وجماعية، رافضين فكرة إصدارها تحت أي ضغوط خارجية أو نوعاً من المناورة السياسية. وهذا يعني أن قادة "حماس" تحرّكوا بوعي في اتجاه الهوية السياسية والإنسانية والخيار الديمقراطي على حساب الهوية الدينية والإسلامية، وفرض التديين داخليا والخطاب الفضفاض، وهو تحوّل فكري مهم على المستوى الإقليمي قبل الفلسطيني، فلا يخفى على أحد التحولات الفكرية التي تمر بها جماعات التيار الديني، وجماهيره الضخمة بعد خبرة الثورات العربية، وما تبعها من صعود لثوراتٍ مضادّة تدعمها إسرائيل، أو لجماعاتٍ مثل داعش، تضرب على أوتار الحروب الدينية والطائفية. ولا يخفى على أحد كذلك أهمية القضية الفلسطينية، ومكانة حركة حماس الإقليمية. ومن هنا، تأتي الأهمية الفكرية لوثيقة "حماس" الجديدة.
والحق يقال إن الواقع العربي السيئ يخلق فجوة دائمة بين المثال والواقع، فحماس ليست حزبا سياسيا يعمل في ديمقراطية مستقرّة، بل هي حركة مقاومة مسلحة ضد احتلالٍ يفرض عليها حصاراً قاسياً عليها، وتعيش في وسط محيط إقليمي مليء بالديكتاتوريات. لذا قد لا ترتقي ممارسات "حماس" إلى بعض المبادئ التي تعبر عنها الوثيقة الجديدة، حيث تشتكي منظمات حقوقية دولية، مثل هيومان رايتس واتش، باستمرار، من قمع "حماس" غير القانوني والحقوقي معارضيها في قطاع غزة، ومن هجماتها التي لا تفرّق على المدنيين في إسرائيل. ومع ذلك، تبقى أهمية التغييرات الفكرية والأيديولوجية التي تضمنتها وثيقة "حماس" الجديدة، خصوصا في ظل السياق الإقليمي الحالي، وما يمكن أن تنتج عنه من جدل في أوساط التيارات الدينية وأتباعها بعد توجّه "حماس" نحو السياسة والأنسنة، والانفتاح على العالم والديمقراطية، على حساب تديين الصراع وأسلمته، وتعميق الهويات المحلية والخطاب الفضفاض.