يحبونني جائعاً..

يحبونني جائعاً..

06 مايو 2017
+ الخط -
حين حذّر الفلسطيني عدوه قائلاً: "ولكني إذا ما جعت آكل لحم مغتصبي"، لم يكن يعرف أنه سيأتي يومٌ يسدّ فيه جوعه بأكل نفسه. 1600 أسير فلسطيني دخلوا اليوم السبت يومهم العشرين من الإضراب المفتوح. الجوع هو أقل ما يعاني منه المُضربون. خلال أول 72 ساعة يستهلك الجسم مخزونه من الغلوكوز، ثم الغلوكوجين، سرعان ما يزول شعور الجوع تماماً، بينما تظهر نوبات الصداع والإرهاق.
بعد الأيام الثلاثة الأولى، تبدأ عمليات تخليق الغلوكوز من البروتين الذي يكوّن العضلات، حرفياً يتغذى المضربون على لحمهم الخاص. يفقد الجسد أيضاً مخزونه الدهني، وكذلك البوتاسيوم والفوسفات والمغنيسيوم، ما يبدأ في التأثير على الجهاز العصبي.
بعد 14 يوماً تتزايد نوبات الصداع، وينخفض مستوى التركيز، وتزداد مشاعر البرد والعطش. تترنّح المشية، وتضمر العضلات، وقد يتباطأ خفقان القلب.
بعد حوالي 30 يوماً تتزايد تدريجياً علامات نقص فيتامين ب1، تشمل ازدواج الرؤية، عدم التحكم بالعيْن، دوارا شديدا، صعوبة في ابتلاع الماء، وربما يمر المُضرب بنوبات قيء لعصارة المعدة الفارغة.
بعد حوالي 45 يوماً، تبدأ المشكلات الأخطر. الجسد يُصاب بالجنون. ربما يُصاب بالفشل الكلوي أو الكبدي إلى الأبد. ربما تصل "الجسيمات الكيتونية" إلى المخ، فيدخل في غيبوبة. ربما يفقد السمع أو البصر أو كليهما. يظهر النزيف في اللثة والمريء وغيرها. وغيرها. قد تحدث الوفاة نتيجة فشل القلب، أو نتيجة تراكم السموم داخل الجسد.
هذه التفاصيل هي ما يغيب عن صور البطولة المتداولة. ليس الإضراب مظاهرةً أو استعراضاً. لا يمكن الاكتفاء بتمجيد "شعب الجبارين". حتى الجبارون يتألمون. الإضراب فعل قاسِ وبشع، لذلك هو أداة للاحتجاج على واقعٍ أقسى وأبشع.
السجون في النهاية هي أداة للسيطرة الكاملة على الأجساد، وسيلة للسيطرة على الأرواح. الزنزانة تحدّد مكان هذا الجسد، وماذا سيأكل، ومتى ينام. الإضراب صرخةٌ وحشيةٌ تتمسك بحرية امتلاك النفس، حتى ولو بتدميرها. صرخة تقول: هذا جسدي أنا، وهذه روحي أنا.
والسجون هي أداة للتغييب لمن في داخلها، كأن وجودهم انتهى خلف الأسوار، بينما يُكمل الواقع مساره في الخارج. لذلك تأتي الصرخة الوحشية لتزلزل الواقع: نحن هنا يا محمود عباس، ولدينا قائد آخر لحركة فتح اسمه مروان البرغوثي. نحن هنا، يا إسرائيل، يا دولة الاحتلال العاري. الصرخة تهدم ادعاءات إسرائيل عن واحة الديمقراطية، وتكشف زيف قوانينها التي كُتبت سابقاً خصيصاً لمصادرة الأراضي الفلسطينية، وكُتبت لاحقاً لمصادرة الأصوات الفلسطينية، كقانون عزمي بشارة، أو قانون الإطعام القسري للمضربين.
حلّت، أمس الجمعة، ذكرى وفاة بوبي ساندز، العضو البارز في الجيش الجمهوري الإيرلندي، مات داخل سجن بريطاني، في اليوم السادس والستين لإضرابه عن الطعام عام 1981. توفى بعده تِباعاً تسعة آخرون، حتى اضطر الباقون لكسر الإضراب بعد إلحاحٍ من الأهالي. كان الإضراب الأخير بعد احتجاجات استمرت خمس سنوات، وشملت الإضراب عن النظافة، تلطيخ الجسد والحوائط بالقمامة والبول والبراز. كانت مطالبهم أن يُعاملوا أسرى حرب، وهو ما تحقق، بعد كسر الإضراب بثلاثة أيام. فاز ساندز بانتخابات مجلس العموم في أثناء إضرابه، وساهم هذا في شهرته، لكنه لم يُنقذ حياته.
خُلّد بوساندز إلى الأبد، ستُرفع صوره في كل مظاهرة، وسيظهر اسمه قي مئات القصائد والأغاني والروايات والأفلام، لكن هذا كله لا يغيّر من أنه مات وحيداً نحيلاً كهيكل عظمي، يغطيه جلد مليء بالقرح. لا نريد أسطورةً ميتةً جديدة، لدينا وفرةٌ منهم بالفعل، بل نتمنّى أسطورةً حية.
لا يبدو حتى الآن أن الملف على أولوية الدول العربية، متى كانت آخر مرّة لوّح فيها العرب بشكل حاسم، بما يملكونه من أوراقٍ قليلة، نظير هذه القضية أو غيرها؟
فلنواجه الحقيقة: نحن حرفياً في سباق مع الزمن، قبل أن يموت مروان البرغوثي أو أحد رفاقه، أو يتعرّض لإعاقة مستديمة. هل يدرك كل متابعي القضية رسمياً وشعبياً ذلك أم سيفيقون على خبر الوفاه؟ "يحبونني ميتاً ليقولوا: كان منّا، وكان لنا". لكننا نحب مروان ورفاقه أحياء، لأنهم سادُتنا، يستحقون الحياة..