"لعبة الأمم" في طبعتها المنقحة

"لعبة الأمم" في طبعتها المنقحة

31 مايو 2017
+ الخط -
لم أكن قد قرأت كتاب "لعبة الأمم" للموسيقار والكاتب ورجل الأعمال والضابط النشيط في المخابرات المركزية الأميركية، مايلز كوبلاند، عندما طلب مني أستاذ مادة سياسات الشرق الأوسط، في الجامعة الكندية التي درست فيها منتصف سبعينيات القرن الراحل، أن أقدّم عرضا عنه، وقد سارعت إلى شراء نسخة منه من مكتبة الجامعة، وقضيت ليلةً وأنا أنقّب فيه، وأنقل بعض أفكاره، وأسجل ملاحظاتي عليها، كي يجيء عرضي له مكتملا، وتنفّست الصعداء، عندما مرت المناقشة بسلام.
دفعني هذا "المأزق" فيما بعد إلى قراءة الكتاب مرات، ثم قرأته بعد سنين في طبعته العربية، كما دفعني إلى البحث عن اللعبة التي وضع تصميمها كوبلاند نفسه، واقتبس اسمها من عنوان كتابه حتى تعرّفت عليها، وتقوم خارطتها التي تشبه رقعة الشطرنج (تحولت لاحقا إلى لعبة إلكترونية) على وجود بلدان نفطية في الشرق الأوسط، وبلد يسيطر على قناةٍ تربط المنطقة بقارات العالم (ربما قناة السويس هي المقصودة). وعندما تسعى قوة عظمى في إحدى جهتي المحيط للحصول على النفط، تصبح القناة بالنسبة لها ذات أهمية استراتيجية كبيرة. ولذلك، تضع الخطط لربط بلاد النفط بالبلد الذي يسيطر على القناة بسلسلة من الأنابيب، في أرضٍ ذات طبيعة برية متصلة، وكي يعبر النفط بأمان إلى البحر، من دون أن يتعرّض لتخريبٍ من مافيا أو عصابة، أو حتى من مقاومين سياسيين ناشطين، ينبغي أن يكون زعيم البلد المسيطر على القناة صديقا حميما لتلك القوة العظمى، كي يستجيب لطلباتها، ويقدم لها كل ما تريده.
هكذا تقوم اللعبة في فكرتها الأساسية على أن تأخذ القوة العظمى دورها في عملية صنع قادة وزعماء من الأصدقاء، يتم الاهتمام بهم، وحمايتهم من غضب شعوبهم، في الوقت الذي تعمل فيه على توفير متطلبات الأمن في منطقة الصراع، بحيث يصل النفط في النهاية إليها سالما، ومن دون أن يتاح لخصومها فرصة الإضرار بها أو بمصالحها.
يشرح كوبلاند الذي تُنسب إليه "لعبة الأمم" كيف استطاعت الولايات المتحدة أن تكون لاعبا ذا نفوذ واسع في العالم، إثر تخليها عن سياسة العزلة بعد الحرب العالمية الثانية، وأن تتحول إلى القوة الأكثر فاعليةً في منطقة الشرق الأوسط بالذات، عندما تراجع دور بريطانيا، وانفتح الطريق أمامها كي تستولي على "التركة". هنا، أدرك الأميركيون أن عليهم أن يدخلوا "لعبة الأمم" بكل إمكاناتهم، إلا أن المعضلة التي واجهتهم، بحسب كوبلاند، هي أن بلدان المنطقة لا تملك حكاما "من النوع المستنير والسليم"، يمكن الاعتماد عليهم، وكان الحل هو "إما أن تغير آراءك أو أن تغير اللاعبين الذين يقفون حجر عثرةٍ في طريقك". وهذا لا يمكن أن يتم من دون خطط سرية، وعمل سياسي نشيط، وكان أن تورّط الأميركيون بتدبير انقلاب حسني الزعيم في سورية، كما دعموا انقلاب يوليو/تموز 1952 في مصر، على أمل أن يكون جمال عبد الناصر لاعبا شريكا معهم، لكنه خذلهم، واتجه إلى فكرة "القومية العربية"، عند ذاك خططوا لتدمير نفوذه.
بمرور الزمن، يقول كوبلاند، تحولت لعبة الأمم في منطقة الشرق الأوسط إلى لعبة مثلثات. يلعب المصريون على السوفيات، والسوفيات على الأميركيين، والأميركيون على المصريين، ويحاول السوفيات إثارة المصريين على السوريين، ويحاول السوريون إثارة المصريين على السوفيات. سادت هذه المشاهد المقلقة منطقة الشرق الأوسط في فترة الستينيات، ودفعت كوبلاند، الذي يعتبر نفسه أحد الصناع الرئيسيين للعبة الأمم، إلى التشكيك في إمكانية أن يبقى مركز عمليات اللعبة قائما في واشنطن، إذ قد تضطر أميركا، في عقودٍ لاحقة، إلى فسح المجال لمنافسيها من القوى الأخرى، لمشاركتها في ضمان استقرار الحال في إقليم النفط الذي يكفي عود ثقابٍ واحد لإشعاله، وسنكتشف، في مرحلةٍ لاحقةٍ، أن باراك أوباما استسلم لهذه الشكوك، وفضّل أن ينسحب تدريجيا تاركا خلفه قوى إقليمية ومحلية، تتصارع على رمالٍ مسكونة بالتغيير.
مات كوبلاند قبل أن تقرّ عيونه بمتابعة الطبعة المنقحة من "لعبة الأمم" التي جاء بها دونالد ترامب، وافتتحها برحلته التاريخية إلى الشرق الأوسط، وقال للأميركيين إنه عاد منها محملا بمليارات الدولارات وآلاف الوظائف، ليبرهن للأصدقاء، قبل الخصوم، على أن أميركا ليست "نمرا من ورق"، كما وصفها ماوتسي تونغ، كما أنها لا تريد أن تتحول إلى "إمبراطورية آيلة للسقوط" كما توقّع كاسترو.
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"