الإسلاميون والدستوريون في تونس.. سراب المصالحة

الإسلاميون والدستوريون في تونس.. سراب المصالحة

04 مايو 2017

صورة بن علي في العاصمة التونسية بعد خلعه (24/1/2011/Getty)

+ الخط -
انتظمت في تونس، يوم 22 أبريل/ نيسان الفائت، ورشة عمل مشتركة بين جمعية منتدى العائلة الدستورية ذات التوجهات الدستورية البورقيبية والتجمعية (التجمع الدستوري الديمقراطي، المنحل) ، ومركز الدراسات الاستراتيجية والدبلوماسية النهضوي -الإسلامي، من أجل التأسيس لما سُمي بـ"المصالحة الوطنية الشاملة الأبعاد والآفاق". حضر اللقاء دستوريون تجمعيون مارسوا الحكم زمن بن علي، وتولوا مناصب ومراكز مفتاحية في الدولة، وإسلاميون نهضويون تولوا الحكم أيام الترويكا من موقع القيادة، ويمارسونه اليوم ائتلافاً ومشاركة. ليست الفكرة جديدة، إذ تعود إلى سنوات خلت، حين كانت تلتقي شخصيات نهضوية مع قيادات تجمعية في حكم بن علي في عواصم أوروبية، وخصوصاً في لندن وباريس، في منتصف العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين، بحثاً عن حلولٍ لأزمة الطرفين وقطيعتهما وصراعهما الدامي الذي دام أكثر من عقدين. لكن النقلة النوعية في علاقة الإسلاميين بالدستوريين انطلقت مع لقاء زعيم حركة النهضة، راشد الغنوشي، بالباجي قائد السبسي في باريس سنة 2013، والذي تحيل رمزيته ومكان انعقاده على اعتراف الإسلاميين بالباترياركالية الفرنسية على تونس التي امتدت من تاريخ بعث الكومسيون المالي سنة 1869 التي وضعت تونس تحت الائتمان المالي الفرنسي والانكليزي، مروراً بالاستعمار الفرنسي ودولة الاستقلال وإلى اليوم، بعد أن كان الاعتراف بتلك الأبوية حكراً على الدستوريين طوال ستة عقود. صفقة سياسية كبرى بين الإسلاميين والدستوريين شهدها ذلك اللقاء تغني عن كل الحوارات والتفاهمات العلنية والسرية بين الطرفين، تمثلّت في إسقاط مشروع قانون تحصين الثورة الموضوع آنذاك على جدول أعمال المجلس الوطني التأسيسي لمنع الدستوريين – التجمعيين من العودة إلى مراكز القيادة والحكم في الدولة، وإلغاء فصل دستوري يحدّد سن الرئيس، ما مكّن السبسي من الترشح لرئاسة البلاد، وهو في أعتى السنين من عمره. وفي مقابل ذلك، تحافظ حركة النهضة على نصيبٍ من السلطة، الأمر الذي ظهر جلياً مع تشكيل الحكومات المتتالية المنبثقة عن انتخابات 2014 التشريعية والرئاسية.

ينطلق قادة الرأي العام الإسلامي في تبرير التفاهمات التي يعقدونها مع الدستوريين، وتحالفهم معهم، من مصنّف قديم للقوى السياسية التونسية، أشار إليه عالم الاجتماع التونسي، عبد القادر الزغل، وأيده أحد أكبر أيديولوجي دولة بن علي، الحبيب بولعراس، أن الروافد السياسية
الأساسية هي الدستوري واليساري النقابي والإسلامي الذي تمثله حركة النهضة المبشّرة بالإسلام الديمقراطي، كما يسوّق لذلك قادتها ومنظّروها. وهذا التصنيف، على علّته وتهافته، بسبب إقصائه روافد رئيسية أخرى، مثل التيار العروبي والقومي الضارب في تاريخ تونس المعاصر الذي ترك بصمته في أكثر من مناسبة سياسية، والتيارات الحقوقية وقوى المجتمع المدني الفاعلة في الحقل السياسي، والقوى السياسية الجديدة التي ظهرت بعد سقوط نظام بن علي سنة 2011، والتي ترفض الألوان الأيديولوجية والسياسية التقليدية. ومع ذلك، تمكّنت من الحصول على مواقع في منظومة الحكم القائمة على فلسفة دستور يناير/ كانون الثاني 2014، فإنه لا يكفي في حدّ ذاته، ولا يبرّر إقامة علاقة بين تيّارين تبادلا العداء والصراع والتناحر الذي بلغ حدّ التصفية ومحاولة نفي الآخر، فالتناقض بين الإسلاميين والدستوريين ناهز عن النصف قرن، فقد انطلق منذ تأسست الجماعة الإسلامية سنة 1972، وبدأت زحفها لأسلمة الدولة والمجتمع وفق النظرية الإخوانية – القطبية (نسبة إلى سيد قطب)، مروراً بظهور حركة الاتجاه الإسلامي سنة 1981 وحركة النهضة سنة 1989 التي أسالت السلطة لعابها، وباتت مستعدّة للوصول إلى الحكم مهما كانت التضحيات. ولم يكن هذا الأمر مقبولاً من الدستوريين البورقيبيين والتجمعيين، مهما كانت الضريبة التي ستدفع من الدماء والأنفس والأموال والأعراض، ومن العيش المشترك للتونسيين وحريتهم ومستقبل أبنائهم، كما بيّنته وقائع الصراع الدامي الذي لم توقفه إلا الثورة التونسية.
وعلى عكس ما يدّعيه تيار الحمائم النهضوي الحثيث الخطى في اتجاه الدستوريين، خاطباً ودّههم، وطامعاً في حسبهم ونسبهم، خائفاً من عودتهم إلى مركز القرار، كما عبّر عن ذلك أحد نواب "النهضة"، قاطعاً الطريق أمام تحالفٍ دستوري يساري، كما حدث في جبهة الإنقاذ لسنة 2013 التي أطاحت حكم الترويكا، من أن الإسلاميين والدستوريين يكملان بعضهما، على اعتبار أن الفريق الأول امتداد لتيار الهوية، والفريق الثاني يمثل تواصلاً لتيار التحديث، وأنه لا علاقة للشرخ الذي حدث بين التيارين بالجوانب العقائدية والأيديولوجية، وأن الخلل الذي بدأ مع دولة الاستقلال لابد من إصلاحه، والعودة إلى الوضع الطبيعي بين الطرفين.
إصلاح ذات البين بين التيار الإسلامي ونظيره الدستوري يصعب، وقد يستحيل تحقيقه، لأن "النهضة" مهندسة هذا التمشي لا تمثل التيار الإسلامي، فهي أحد روافده لا أكثر، أما بقية الروافد، مثل حزب التحرير والمجموعات السلفية السلمية والعنيفة، لم تعلن عن رغبتها أو نيتها في إجراء أية مصالحة. وفي المقابل، لا تمثل مجموع الشخصيات الدستورية التي حضرت ورشة المصالحة تياراً أو حزباً دستورياً بعينه، وإنما تمثل حالات فردية، يبحث أصحابها عن خلاصهم الذاتي، متوهمين أن مفاتيحه تمتلكها حركة النهضة.
تخفي العلاقة بين النهضويين والدستوريين جراحاً عميقة، لا يبدو أنها قابلة للاندمال في الأفق
السياسي التونسي القريب، ولم تجد المصالحة بين الطرفين لنفسها مكاناً في الهيئات الدستورية المكلفة بهذه الوظيفة، وخصوصاً في مسار العدالة الانتقالية، ودور هيئة الحقيقة والكرامة التي استفاد الإسلاميون من جلسات استماعها العلنية التسع أيّما استفادة، حينما قدّمتهم في صورة الضحية التي نالت العذابات، ولحقتها الانتهاكات التي لا تغتفر من دولة تولاها الدستوريون ستين سنة متتالية، ما دعّم رأسمالهم الرمزي والنضالي، وأظهرهم في طليعة القوى السياسية التي نال منها الاستبداد، وهو أمر غير صحيح، مقارنة بما نال اليوسفيين من قمع وتصفية كاملة من الحياة العامة، في حين لم يعترف الدستوريون بهذا المسار، عاملين على إجهاضه، رافضين الجلوس مع ضحاياهم بوصفهم جلادين، غير قابلين الاعتذار منهم ومن التونسيين أجمعين، بسبب ما اقترفت أيديهم من استبداد واحتكار للسلطة، وتزوير الانتخابات والفساد والاستيلاء على المال العام، وتحويل بلدٍ برمته إلى حديقة خلفية لعائلة حكمت بالحديد والنار، ناهيك عن التعذيب والقتل ومختلف الانتهاكات التي طاولت عشرات الآلاف، وأدّت إلى الموت العمد لمئات الحالات.
تبدو المصالحة الإسلامية الدستورية نوعاً من ترف الصالونات والوهم والسراب الذي تركض وراءه قياداتٌ إسلاميةٌ منفصلةٌ عن قواعدها ذات التوجهات الراديكالية في غالبها، وشخصيات دستورية تحاول أن تتجاهل تاريخها، فقد بيّنت تجربة التعايش السياسي والتحالف بين النهضويين والندائيين (نداء تونس)، بوصفهم حزباً لا ينكر خلفيته الدستورية، في الحكومة والبرلمان، أن علاقتهما تحكمها المخاتلة السياسية التي تصل أحياناً إلى درجة النفاق السياسي، فرضتها المصلحة السياسية، والرغبة في الحكم، ولو كان الأمر على حساب المبادئ والأفكار، على الرغم من أن الخلفية الليبرالية للطرفين تبدو مؤكدة، لكن لا يمكن للدستوريين أن ينسوا أن النهضويين حزب إخواني المنشأ، مرجع ولائه للجماعة، ولهم معه صولات وجولات في الصراع السياسي واستخدامات العنف. ولا يمكن للإسلاميين أن يتجاهلوا سنوات الجمر التي شهدت المنافي والسجون والمعتقلات التي تسبب لهم فيها الحزب الاشتراكي الدستوري والتجمع الدستوري الديمقراطي.
وحدها اللعبة الديمقراطية وقبول قوانينها واحترام إكراهاتها بالتداول السلمي على السلطة هي ما سيضمن التعايش بين أبناء الوطن الواحد، ويؤسس لمصالحة حقيقية تعتمد الحق في الاختلاف قاعدة لها، أما دون ذلك فهو اللهث وراء غنيمة سياسية ملوثة، لن تستمرّ طويلاً، لأنها تناقض منطق التاريخ وقانونه الأساسي في تبدل أحوال الناس واجتماعهم، والمصالحة بين الدستوريين والإسلاميين ستؤدي إلى تأسيس نوعٍ من الاستبداد الناعم أو هي العودة المستحيلة إلى استنساخ التراجيديا السياسية التي عرفها التونسيون نصف قرن أو يزيد.