"رامز تحت الأرض".. التطبيع مع العدوانية

"رامز تحت الأرض".. التطبيع مع العدوانية

30 مايو 2017
+ الخط -
تجاري البرامجُ التلفزيونية روحَ العصر، أو لِنقُل، مزاجَه، بل ربما تحاول أن تبدو متقدِّمة، متجاوِزةً، بعضَ التجاوُز له؛ كي تُدهش المتلقِّي/ المشاهد، بحسب نوعها، وتقنيّاتها، ثقافية البعد، أو ترفيهية، أو سياسية، أو غيرها. لكن، إلى أيِّ حدّ يُقبَل التجاوز؟ إلى حدّ التخاصم مع ما استقرّ، ولا يزال يستقرّ في وجدان المشاهدين؟ وفي ذائقتهم الجمعية، بشكل عام؟
في السنوات القليلة الماضية، تحوّل فنانون كبار إلى الشاشة الصغيرة، ومع هذا الاهتمام المتزايد بالأعمال التلفزيونية تزايدتْ الجرعة (الجريئة) نوعاً من التعويض عن السينما، أو الاقتباس من إثارتها؛ فصار المشاهد، وهو غالبا، في جوٍّ عائليٍّ، يشهد مقاطع من الرَّقص الشرقي، ودرجاتٍ عالية من العنف، وحدَّةً أعلى في الحوارات تقترب جدا، بل تنغمس أحيانا في الألفاظ السُّوقيَّة، كما صرنا نرى مشاهد تفصيلية لتعاطي المخدِّرات، وغير ذلك، ممَّا لم يكن مقبولا، أو متوقَّعا في المسلسلات.
فضلا عن غياب المضامين عن غير قليل من الأعمال والبرامج، إلا مِن الإبهار والإثارة، وتشجيع النَّهَم الاستهلاكي، بالطبع قد يقال: إنها مسلسلاتٌ وبرامج تسلية وترفيه، في المقام الأول، وهي بالتالي، خفيفة، بل تتقصَّد أحيانا الابتعادَ عما تشبَّع به هذا العالمُ العربيُّ من صراعاتٍ واصطراعاتٍ إيديولوجية وطائفية وسياسية. هذا الكلام قد يكون له بعضُ الوجاهة، من وجهة نظر (فنيَّة)، مع أنَّ المبدأ العام: من الممكن الجمع بين المضامين والبُعد التسلويّ الترفيهي. لكن الدفاع الآنف الذكر قد يفقد وجاهته تماما، إذا اتَّضح أن تلك النوعيات البرامجية تزيد الأدواء، ولو بمسار غير مباشر، وتعزِّز الكراهية، أو تُغذِّي النزعات العدوانية.
ومثالاً على هذه الجرعات العالية من الاقتحام الصادم، بل والمزعج، برنامج رامز لهذا الموسم الرمضاني، كما كان في مواسم سابقة، "رامز تحت الأرض"، كما اختار أن يُسمّيه (!)، فإنه فضلا عن لا أخلاقيَّته في جزئية الخديعة، فيما يُفترَض، للضيف، والإجبار على خوض هذه التجربة المُريعة، فضلا عن ذلك، فإنه يتعمَّد الإثارة المتخفِّفة من قدْرٍ كبير من الضوابط؛ فهو في مقدِّمة الحلْقة يفيض على المشاهد بكمٍّ كبير من العبارات الساخرة من الضيف، من شكله، ومن كلامه، ومن لباسه، يتخلَّلُها ألفاظٌ لم نعْتَدْ عليها، حتى في السينما المختلفة في طبيعة المشاهدين، وفي معرفة المُشاهد بنوعيَّة الفيلم الذي يشتري من أجل مشاهدته التذكرة، فهنا إخلالٌ بالعقد الضِّمني بين الباثّ/ القناة التلفزيونية، أو مُنتجي البرنامج، من جهة، والمتلقّي/ المشاهد، من الجهة الأخرى. وكثير ممَّن يشاهدونه أطفال تستهويهم الإثارة التي فيه، في جوّ عائلي.

وهنا نواجَه بالديباجة الدفاعيَّة الشائعة:" الجمهور عايز كِدا"، أو "أنت تستطيع أن تقلب القناة؛ بكبسة زر عن بُعد" .
مع أن الحكم بأن المشاهد يقبل هذه البرامج، أو يرغب بها، بدليل كثرة المشاهدة لها، ليس دقيقاً، ولا علمياً، فالحاصل استغلال مُشاهِدٍ تستهويه الإثارة، ولو إثارة تلبِّي عدوانية ما كامنة في النفس البشرية، قد يجري تفريغُها، لكنه ليس تفريغا، أو تطهيرا عن طريق عرضٍ سينمائي، أو مسرحي، تمثيلي، ولكن بالتشفِّي بحالة إنسانية حقيقية. ومع ذلك، قد يستهجن هذا المشاهدُ المدى الذي يذهب إليه البرنامجُ ومقدِّمُه في التلفُّظات النابية، وفي الإيحاءات المُحرِجة التي يجري تمريرُها، في طريق الشغف والترقّب.
ثم إن القول إن الجمهور هو الذي يرغب في هذا المَنحى، وفي هذا الطابع، قولٌ فيه تجَنِّ، إذ يتعامل الجمهور مع المعروض من هذه البرامج الترفيهية، كالمتسوّق الذي تُطرَح أمامه في السوق بضاعةٌ رديئة، أو غير مستوفيةٍ لمواصفات الجودة صحّيا، ولكنها لأسباب ترويجية دعائية واحتكارية، أصبحت مكرَّسةً، وسهلة التناول. فليس للناس هذا الوعي الثابت، ولا الإرادة الكاملة، أمام تيَّارات جارفة، مع أنهم لا يفتقرون إلى الحسّ والحدس والمعرفة بهذه الطريقة الاستدراجية، والقفزات النافرة، من مرحلة ذوقية هابطة إلى مرحلة أدنى.
والمُشاهد العربي كان يتفاعل دوما، وينجذب إلى الأعمال الرفيعة، حين تسنح، فليس هو من يطلب هذا النوع بحرّيته؛ فإذا كان، على فرَض صحَّة هذا الحُكم، الجمهور يطلب هذه النوعية، فإنه الجمهور المُكوَّن بتلك البرامج، أو الجمهور الذي كوّنته أمثالُ تلك البرامج المُسطَّحة، والمسطِّحة.
وفي الحقيقة، الهاجس المالي المُتكئ على الإثارة المتخفِّفة من القواعد المجتمعية والخُلقية يشغل الدافع الأهم، فيما يستمرُّ في استتفاه هذه الشعوب، وتفريغها من عوامل البناء الضرورية، ومنطقتها ومجتمعاتها في مرحلةٍ هي أمسّ ما تكون فيه، إلى الوعي الحقيقي، والاستبصار؛ لكي لا تُمعن في الإحباط، ولكي لا يستمرّ اغترابُها وهروبها المحدود الأجل (...).
برنامج يصبّ في الكراهية، بالتطبيع مع العدوانية، يستهدف الإعجاب، ويستجدي الضَّحك المُتشفّي، ولو بزجِّ الضحية إلى مراحل الخطر الحقيقي، على افتراض أنه من دون اتفاق مسبق معها، وهو الأمر الذي يحرص مُعدُّو البرنامج على نفيه، كلما بدتْ إشاراتٌ عليه؛ مدفوعين إلى استبقاء صدقيّته التي لا بقاء لها من دون أن يكون الضحية فعلا قد شارف على الخطر؛ جرّاء الهلع والاضطراب الشديد الذي يصيبه.
ويشي وجود مثل هذه النوعية من البرامج، بل كثرتها، بفقدان مركز ثقافي يمنحنا معنىً يخصُّنا، في حالةٍ أشبه بالسيولة والانفلات، إذ نجد ما يُفترَض أنها مؤسساتُ الشعب الثقافية، أو على الأقل مؤسسات ليست متعادية فيه، كما يُفترَض، تهدم بعضها بعضا، ويكذِّب بعضُها بعضا؛ ففي مؤسسات التربية والتعليم، مثلا، يُعمَل على تأسيس قيم تربوية معيّنة في شخصية الطالب. وفي هذه البرامج، يجري هدمُها؛ فأيُّ شخصيةٍ متنافرة التكوين، أو انفصامية، تنشأ؛
بفعل هذه الحالة، وتترعرع، وتستمر بهذا الانفصام إلى مؤسسات الدولة والمجتمع والحياة الاجتماعية. ولا نعدم أمثلةً تدل على هذا الذهول حتى الجهل الذي يعادي النفس، كما مثلا، حدث في برنامج مماثل لمحمد فؤاد، (سبق هذا الموسم) كان العلمُ الإسرائيلي يخفق فيه مشهداً مركزياً، يقوم على استخدامه للدلالة على الجيش الإسرائيلي المحتل الذي يوهم الضحية أنه واقع في قبضته. (!)
من المفترض أنّ أيَّ عمل فنِّي، حتى لو كان تَسلَوِيَّ الطابع، ألا يتأسّس على قاعدة اجتماعية وأخلاقية غريبة عن هذا المجتمع، وأنَّ المواطن العربي الذي يعاني معيشيًّا عولمةً اقتصادية أرهقته، بالإضافة إلى اختلالاتٍ اقتصادية محلية عميقة، انتهت إلى تهديد احتياجاته الأساسية الحيوية، من مأكل ومسكن وملبس وعلاج، لن تجيره منها العولمةُ (الفنية) الاغترابية التي إن صلحت لمجتمعاٍت غربيةٍ، فلا تصلح لمجتمعاتٍ عربية لم تفقد هويتها بعد، وإن كانت تعاني جرحا، على حدّ تعبير محمود درويش، واضطرابا فيها.

دلالات