من لطفي السيد إلى عزيز العظمة

من لطفي السيد إلى عزيز العظمة

28 مايو 2017

أحمد لطفي السيد وعزيز العظمة

+ الخط -
إذا كان رفاعة الطهطاوي دشّن الاقتباس عن الغرب والدعوة إلى حكم مُقيد بالدستور، وتباعد بين الدين والدولة على النحو الغربي، وتبعه في ذلك آخرون، فإن الحال ليس مختلفاً كثيراً عنه في تجربة خير الدين التونسي الذي خرج من عباءة باي تونس، كما خرج الطهطاوي من معطف الضابط البلقاني، محمد علي باشا، ليجد خير الدين التونسي نفسه مدعواً لدى السلطان العثماني، ويشغل لاحقاً موقعاً رسمياً فيما بعد، ويبقى في الأستانة، وينتهي بها عام 1890، بعد أن فشل بإقناع السلطان عبدالحميد بإصلاح عام للحكم. وهناك نموذج الشيخ أحمد ابن أبي الضياف الذي زار باريس أيضاً سنةً، برفقة الباي أحمد حاكم تونس، وقدّم تصوراً للإصلاح في كتابه "إتحاف أهل الزمان"، وهو صاحب مطلب المُلك المقيد بقانون.
هذه الثلاثية الإصلاحية التونسية المصرية (الطهطاوي وخير الدين وابن أبي الضياف)، والتي زارت كلها باريس، مارست مجتمعةً محاولة التقريب بين رؤية الغرب في إدارة الدولة وفي بناء المجتمع، ونقلها إلى المحيط العربي. دعوة وإن كانت نتيجة واقعة أدب السفارات والزيارات التي وجدت في باريس والغرب معاً بداية الحل والنهاية لمعضلة النهوض، إلا أنها كانت تبحث عن حلٍّ لأزمة واقعها، وفي النهاية، اصطدمت فيما بعد بقوى معارضة محافظة، رافضة النموذج الغربي. تطرح سؤالاً مهماً عن أثر الإسلام في أزمات المسلمين آنذاك، وفي واقعنا اليوم.
كانت مجلة الجورنال دي دبا (journal des Debats) نشرت، في 18/5/1883، المناظرة التي أشار عزيز العظمة، في كتابه عن العلمانية، في معرض قراءته لها، أن جمال الدين الأفغاني أراد أن يجعل من نفسه محامياً للشرق، في الوقت الذي كان يعي حدود المسافة الفاصلة بين الدين والعقل. وكان الأفغاني يحاول الدفاع عن دور العرب في مجال الفلسفة، في مقابل مقولة أرنست رينان بتخلف العرب الفطري.
حاول الأفغاني الدفاع عن منجز العرب والإسلام في المسألة الأولى التي تناقش وقوف الإسلام
عقبة أمام العلوم، وتساءل: هل هذه العقبة لن تختفي ذات يوم؟ ورأى أن كل الأديان متعصبةٌ ضد العلم. أما المسألة الثانية فهي الرد على مقولة رينان بتأخر العرب في ميدان العلوم، وخلصَ الأفغاني إلى أن المسؤولية ملقاة على العقيدة الإسلامية مسؤولية كاملة، وهو يرى أن "كل إيمانٍ يكون خلفه الدين، فإنه لا محالة سوف يمحو الفلسفة".
وجدت أفكار الأفغاني آذاناً صاغية في مصر التي شهدت، مع بداية القرن العشرين وفي حقبة ما بين الحربين، جدلاً كبيراً حول العلمانية والتغريب، وهو ما تكشف عن مجلات تلك الحقبة التي حفلت بجدال وصراع كبير واتهامية بإلحاد سلامة موسى وشبلي شميل وطه حسين وغيرهم من القائلين بالأخذ من الغرب، وهو ما دعا إليه أحمد لطفي السيد بأكثر من صورة. وكان من رموز الفكر المؤسّس للعقلانية الليبرالية العربية، وحين زار الغرب لاستكمال معارفه بطلب من الخديوي عباس حلّ في جنيف، والتقى بالشيخ محمد عبده، فتأثر بأفكاره، ما أغضب الخديوي عباس. كما التقى عندما زار اسطنبول مع جمال الدين الأفغاني وأخذ منه.
منذ بداية مسيرته التي جمع فيها بين كونه من مؤسسي الحزب الوطني عام 1908، وكونه من مؤسسي الشركة التي أصدرت "الجريدة" في 1907، والتي كان شعارها الدفاع عن القضية المصرية. كما تنوعت نشاطاته، وتعدّدت المواقع التي أسندت إليه في إدارة دار الكتب مرتين، ورئاسة الجامعة المصرية مرتين، وفي وزارة المعارف مرة. وحاول لطفي السيد نقل الفكر لبناء المؤسسات، مع إضفاء مسحة وطنية عليه، وقد أدرك أثر الدين ومؤسساته، في مقاومة التحديث. وكانت ممارسته نموذجية لدور المثقف العربي الذي أوجد صيغاً عديدة للتعبير عن أفكاره، في لحظة هائلة من التحولات الكبيرة التي عصفت بالمنطقة العربية في النصف الأول من القرن العشرين، وكانت تشهد الاستعمار والحركات الوطنية والنزعات الانفصالية وتشكّل الهويات والبحث عن خلافة وجدل التغريب وغيره، وهو واقع زاد تعقيداً بعد النكبة العربية 1948، واستمر طيلة النصف الثاني من القرن العشرين، وجاء بطروحات الإسلام هو الحل أو الدولة التقدمية والتي انتهت بالاستبداد.
أحال ذلك كله السؤال عن النظرة إلى دور للعلاقة بين الدين والدولة داخل مجالها الإسلامي إلى واقع تاريخي معقد، حتى وإن كان هناك من سعى إلى المساهمة الفعلية في تمدين الدولة، مع إيقاظ نزعتها الوطنية، على غرار نموذج لطفي السيد أو من حاول إحياء الدين فيها، على غرار تجارب الإحيائيين العرب.. بمعنى آخر، العلاقة بين الدين والدولة ليست إلا واقعاً تاريخياً يتطوّر وفق شروط، ويتأثر بجملة الوقائع والمصائر.
وهو ما ذهب إليه عزيز العظمة الذي يعرف العلمانية من خلال جملة من التحولات التاريخية
السياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية والأيديولوجية؛ أي أنها تندرج في أطر أوسع من تضاد الدين والدنيا، بل إنها تابعة لتحولات سابقة عليها في مجالات الحياة المختلفة، كما أنها عنده ليست بالشأن تام التحقق، بل إنها "أشكال ومسارات تعتمد على الظروف التي نشأت عنها؛ أي أن لها تواريخ حقيقية، وليست فقط تواريخ أيديولوجية تبدو فيها كأنها مبارزة بين فرسان الخير وفرسان الشر".
أخيراً العلمانية في الغرب وضعت حداً للاشتباك بين أطراف الصراع، رفعت قيمة العلم وحرّرته من سلطة الكنيسة، أوجدت آليات حكم، وفكّت الصراع الكبير من سلطة الدين والسلطة، وجعلت الحكم أكثر حيويةً وقادت إلى الديمقراطية. أما عربياً، فحسب برهان غليون، فإن "مذهبة الدولة والسياسة تماهت مع الاشتراكية أو الليبرالية، أو الحداثة عموماً، على تسعير التنافس الشامل بين نخبتين وسلطتين أهليتين على السيادة العليا والمشروعية في إطار التنازع العقائدي، وليس الإنجازات العلمية".
تزامن هذا مع إدخال الدولة العربية الدين إلى بطنها واحتكارها له، ومن ثم إنتاجها التشدّد أو التحالف ضد القوى الديمقراطية والتحديثية، وهذا كله قاد إلى انحسار العلمانية العربية ممكنة الحدوث، وانتهى بنا إلى واقعنا الراهن اليوم الذي لم يمحُ الفلسفة وحسب، بل محقها وألغاها من مناهج الدراسة في كثير من بلداننا العربية، في لحظة تحالف الديني مع الرسمي.
F1CF6AAE-3B90-4202-AE66-F0BE80B60867
مهند مبيضين
استاذ التاريخ العربي الحديث في الجامعة الأردنية، ويكتب في الصحافة الاردنية والعربية، له مؤلفات وبحوث عديدة في الخطاب التاريخي والتاريخ الثقافي.