تناقضات المدينة العربية

تناقضات المدينة العربية

26 مايو 2017

مدينة عمان.. فوضى وفقر في الأحياء الشرقية(23/4/2017/Getty)

+ الخط -
زرت، أخيرا، عدة عواصم عربية في مهمات بحثية متنوعة بين إعطاء محاضرات، والمشاركة في مؤتمرات، وعمل بحث ميداني، وكان الملمح الأبرز الذي يجمع بينها هو حجم التناقضات الصارخة التي تعيشها هذه المدن، والذي تلحظه العين بسهولة، عندما تأخذك أقدامك باتجاه شوارع هذه المدن وحاراتها وأزقتها وزنقاتها. وهي تناقضاتٌ تجمع ما بين السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والديني.
في تونس، على سبيل المثال، والتي زرتها للمشاركة في مؤتمر نظمته المنظمة العربية للقانون الدستوري بالتعاون مع جامعة هارفارد، تشعر بحيوية سياسية، عندما تلتقي نشطاء وباحثين وحقوقيين وسياسيين، يملأهم الأمل والتفاؤل، وحين تخرج إلى الشارع يقابلك الإحباط واليأس الذي تلمحه في وجوه المواطنين وعيونهم. تستقل "تاكسي" من ضاحية قمرت الراقية التي تشبه إحدى ضواحي فرنسا وإيطاليا، بأشجارها ومنازلها الفاخرة، فيضج السائق بكثير من الشكوى من سوء الأحوال الاقتصادية والفساد الذي لا يزال منتشراً، على الرغم من قيام الثورة قبل ست سنوات. يُحبطك حديثه عن المستقبل الذي لا يراه إلا يحمل مزيداً من الإرهاق والمعاناة. تنزل إلى تونس القديمة، تأخذك أقدامك إلي أزقتها وبيوتها العتيقة، تجد العشرات من الشباب علي المقاهي يعانون من بطالة واضحة، وهم في أوج عطائهم، بينما المحلات خاوية من الزبائن خصوصا الأجانب، على الرغم من أنها منطقة سياحية بامتياز.
وفي الرباط التي زرتها لإعطاء مجموعة من المحاضرات، وإجراء مقابلات بحثية، يصعقك حجم التناقض الاقتصادي والاجتماعي والديني في المدينة. أقمت في حي "أكدال" الراقي عشرة أيام، رأيت فيها تناقضات المدينة العربية في أبرز تجلياتها. ففي الشارع الذي نزلت في أحد فنادقه الشهيرة، تجد أحدث أنواع وماركات السيارات الفارهة التي تتجاوز أسعارها ملايين الدراهم المغربية، وفي الوقت نفسه، تجد عشرات المتسولين، وأغلبهم من الشباب العاطل، الذين يطاردونك بمجرد أن يعرفوا أنك لست مغربياً. في الحي نفسه، الذي ذهبت للصلاة في أحد مساجده، رأيت مصلين كثيرين تعلو جباههم علامات الخشوع، وإن مُلئْت وجوهم بالمعاناة، وبخارجه على بعد أمتار قليلة، تطاردك بعض مظاهر الانحلال الأخلاقي والسلوكي بشكل مفزع. وفي الوقت الذي يمكنك أن تتناول فيه وجبة غذاء، يتجاوز ثمنها عشرين دولاراً، فإنه بمقدورك أن تتناول عشاء لا يتجاوز ثمنه دولارا ونصف الدولار.
وفي عمّان التي زرتها الأسبوع الجاري، بدعوة من الصديق الدكتور محمد أبو رمان، لحضور مؤتمر حول مستقبل الإسلام السياسي، نظمه مكتب مؤسسة فريديرش إيبرت الألمانية، لا يمكنك أن تتجاهل حجم التناقضات التي تعيشها المدينة. ففي مقابل الأحياء الراقية في ضواحي المنطقة الغربية للمدنية مثل ضاحية الرشيد، وخلدا، ودابوق، تجد في الجزء الشرقي من المدينة، خصوصا في وسط البلد، ملامح الفوضي والفقر التي لا تخطئها العين. ولا يمكن أن تتجاهل حجم المشاريع التي تقوم بها شركات عالمية في مجال العقارات، في حين يكافح سكان كثيرون من أجل الحصول على مسكن متواضع.
هذه فقط مجرد صور متفرقة لبعض تناقضات المدن العربية، ولا شك لدي بأن مثلها يوجد في عواصم عربية أخرى، كالقاهرة وبيروت وبغداد والجزائر والخرطوم والرياض. ولكنها تعكس حجم التفاوت الطبقي والاجتماعي الذي يزداد كل يوم بشكل كبير. لذا، لا عجب أن تكون هذه المدن بؤرة للانتفاضات والتظاهرات التي انطلقت قبل ست سنوات. وإذا ما ظلت الحال على ما هي عليه، فيبدو أن هذه المدن سوف تشهد انتفاضات جديدة، ربما تكون أكثر عنفاً وفوضى.
A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".