شباب يفكّر خارج الصندوق

شباب يفكّر خارج الصندوق

23 مايو 2017

تونس يحتجون ضد الفساد في العاصمة (13/5/2017/فرانس برس)

+ الخط -
ما يحصل في مدينة تطاوين التونسية لم يكن يتوقعه أحد من رجال السياسة في هذا البلد، المسكون حاليا بالهواجس.
بدأت الأقصوصة باحتجاج شبابٍ غاضب. وكعادة الحكومات المتعاقبة منذ الثورة، لم يتم التعامل مع ذلك بالجدية المطلوبة. لكن، سرعان ما تطوّرت الحالة، عندما نصب هؤلاء خياما، وأعلنوا اعتصاما مفتوحا. عندها عقدت حكومة يوسف الشاهد جلسةً، وضبطت خطةً تضمنت 65 قرارا، وتحوّل فريق وزاري ضم عشرة وزراء، قادهم رئيس الحكومة. وكانوا يظنون أنهم، بالإفصاح عن هذه الإجراءات، سيعودون إلى العاصمة فرحين، كما يفعل المنتصرون، لكنهم فوجئوا برد فعلٍ عاصفٍ من الشباب الغاضب الذين استطاعوا أن يطردوا الوفد الحكومي بطريقة مذلّة.
لم ييأس الشاهد الذي كتم غيظه، وأرسل وزير التشغيل لمواصلة المفاوضات (من حركة النهضة التي تعتبر تطاوين من أهم المناطق الداعمة لها)، وبعد جهودٍ مضنيةٍ، قدّم لهم عرضا مغريا، وهو ما جعل أغلبية المعتصمين يقبلون به، ويصوّت ضده عدد قليل. وما أن تنفسّت الحكومة الصعداء، إذا بجزء من هؤلاء الشباب يقرّرون القيام بخطوةٍ استباقية، تمثلت في التوجه رأسا إلى أحد مواقع استخراج النفط الذي تديره شركة إيطالية. وعلى الرغم من وجود قوة عسكرية، إلا أنهم فرضوا إغلاق إحدى الآبار الرئيسية. كما دعوا سكان الولاية إلى مساندتهم، من خلال الخروج، والوقوف في مداخل المدينة، لمنع وصول الإمدادات التي قد ترسل إلى الجيش الذي كلفه رئيس الجمهورية، الباجي السبسي، قبل أيام، بحماية المؤسسات الاقتصادية، وفي مقدمتها آبار النفط.
وهكذا أخذت الحركة السلمية التي أطلقها هؤلاء الشباب شكلا جديدا في المقاومة، ما وضع السلطة التنفيذية بكل مكوناتها أمام تحدٍّ صعب. يقول الشاهد إنه ليس ضد الاحتجاجات، بشرط ألا يؤدي ذلك إلى تعطيل عمليات الإنتاج. لكن السؤال اليوم كيف سيفعل وقد تجاوز هؤلاء الخط الأحمر، وشرعوا في تنفيذ خطةٍ تعتبر انتحاريةً ليس لهم فقط، ولكنها أيضا انتحارية للحكومة والائتلاف الحاكم بجميع أحزابه. هل سيتركون الشباب يسيطرون على المنطقة النفطية ويعطلون الإنتاج، ما سيدخل الدولة في أزمةٍ غير مسبوقة مع الشركات الأجنبية التي تتصرف في هذه الثروة وفق عقود والتزامات؟ أم أن السبسي والشاهد سيتحملان مسؤولية الدفع بالجيش نحو الاشتباك مع المحتجين، وهو أمر محفوفٌ بالمخاطر، وقد يؤدي إلى سقوط ضحايا واحتمال أن تتسع رقعة المواجهات، ومن ثم التورط في صدامٍ مع أهالي هذه المنطقة الاستراتيجية المحاذية للجزائر؟.
يتشكّل حاليا حراكٌ شبابي من نمط خاص، لا يكتفي أصحابه بردود أفعالٍ مؤقتة، ولا يرضون بالقليل، وهم مستعدون للذهاب إلى الأقصى، كأنهم في معركة مقدّسةٍ وشاملة.
شباب سحبوا الثقة من السياسيين الذين يريدون إقناعهم بأن اللعبة أصبحت مغلقة، وأن البلاد يجب أن تستمر وفق سيناريو وحيد، يقوم على ميزان قوى سياسي تحدّده الانتخابات، وتفرضه المرجعية الدستورية التي تم إقرارها. وأن تونس لا تستطيع أن تخرج عن السياقين، الإقليمي والدولي، المتحكمين في مصيرها.
هذا ما تفكر فيه النخبة حاليا. لكن لهؤلاء الشباب المستنفر منطقا آخر مختلفا تماما. إنهم يرفضون التسليم بأن اللعبة انتهت، ويعتقدون أن الثورة مستمرة، وأن الذين أفرزتهم صناديق الاقتراع لا يمثلون الشعب، أو خانوا أهداف الثورة، ويهدّدون اليوم أحلام الشباب المهمش. وعلى هذا الأساس، قرّروا التفكير من خارج الصندوق، وأن يخوضوا معركة مفتوحةً مع المتنفذين القدامى والجدد. هم يفكّرون بشكل مختلف، يعتقدون أن تأميم شركات النفط يمكن أن يكون الطريق الوحيد لحماية ثرواتهم الطبيعية التي يصفونها بـ "المنهوبة". قد يبدو هذا الخطاب خارج السياق العالمي الراهن، ولا تتحمل تبعاتِه دولة صغيرة في حجم تونس، لكن بين الواقعية السياسية التي يتمسّك بها معظم السياسيين التونسيين وهؤلاء المتمردين على ما يعتبرونها "ديمقراطية شكلية" هناك فجوة تتسع تدريجيا، ما جعل بناء الثقة بين الطرفين يكاد يصبح مستحيلا.
266D5D6F-83D2-4CAD-BB85-E2BADDBC78E9
صلاح الدين الجورشي

مدير مكتب "العربي الجديد" في تونس