لكي تصل "هدية" إيران

لكي تصل "هدية" إيران

22 مايو 2017
+ الخط -
يُجافي منطوقُ مقالة وزير خارجية إيران، محمد جواد ظريف، في "العربي الجديد" أول من أمس (20 مايو/ أيار) حقائق الواقع المنظور في غير موضعٍ عربي، ولا سيما عندما يُبدي الرجل عدم رضا بلاده عن تدخلاتٍ خارجيةٍ تنجم عنها حالة عدم الاستقرار، فمسؤولية طهران بشأن هذه الحالة تحديدا، وبالضبط بسبب ما أشارت إليه المقالة تحديدا، شديدة الوضوح. غير أنه في الوسع أن يفترض الناظر في سطور المقالة توجّها طيّبا في الاستعداد الذي يبديه الوزير، نيابةً عن بلاده، لإهداء السلام إلى المنطقة، على ما يقول عنوان المقالة. وبعيدا عن سجالٍ بشأن صيغة "الإهداء" هذه، وما تنطوي عليه من تفضّلٍ لدى إيران تجاه المنطقة، لا بأس من ملاقاة هذه الروح الإيجابية في أول الطريق، وإنْ تبقى منظورةً قدّام الأعين معاكسة الطريق الذي تسلكه إيران ما شدّدت عليه المقالة بشأن استعداد الجمهورية الإسلامية الدائم للحوار، فيُقال للوزير ظريف، هنا، إن العرب على أتم الاستعداد لقبول الهدية، ثم المبادرة إلى تعبيد الطريق الأصوب بينهم وبين جارتهم المشاطئة لهم، للوصول إلى حالةٍ من الحوار القويم بينهما، فيمكن بعده إقامة مثالٍ بالغ القيمة على حسن الجيرة وسلامة النيات.
وحتى يستقيم إرسال الهدية ثم قبولها، فإن المؤمَّل أن تباشر طهران ما عليها من مقتضياتٍ ليس عصيّا تعيينها، ولا صعباً تذكير صانع القرار الإيراني بها، وأولاها أن يتخلى هذا عن النظر إلى الجوار العربي باعتباره ساحةً مستضعفة، وميدان رمايةٍ مباحا لبلاده، صدورا عن شعوره بالتفوق على العرب، منفردين أو مجتمعين. وثانيها أن تتخلى إيران عن افتراض أنها مستهدفةٌ، طالما أن دول الخليج العربي تقيم علاقات تحالفٍ وصداقةٍ مع الولايات المتحدة، فلم يصدر عن أيٍّ من هذه الدول أيّ إشارةٍ تضمر هذا الشيء، فيما من حق كل دولةٍ عربية أن ترى خياراتها الأنسب في توفير أسباب حماية أراضيها. وفي المستطاع أن يتوصل الجانبان، الإيراني والعربي، إلى معادلةٍ تيسّر هذا الأمر، وتطوّق أي توجس. وقد دلّت تجاربُ سابقةٌ، في أطوارٍ من العلاقات الحسنة بين طهران وعواصم دول الخليج، ومنها الرياض، على أن هذه مسألةٌ ليست عويصة.
ولأن من غير المعهود أن يقبل أحد متخاصميْن هديةً من الطرف الآخر، من دون أن يبذل هذا ما يجعل تلمس النيّات الطيبة لديه أمرا ميسورا، فإن الهدية التي يروم ظريف تقديمها، في مقالته التي لا تخفى دلالة توقيت إشهارها، يحسُن أن تكون أفعالا منظورةً، يتحقّق العرب فيها أن الذي جهرت به المقالة إنما هو قناعة متوطّنة لدى الحكم في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وليس محض عباراتٍ معسولة المفردات، عندما تُطنب في الحديث عن الاستقرار والحوار البنّاء والثقة بين الجيران، وغير هذا كله مما لا تعوزنا، نحن العرب، المقدرة على إنشاء تنويعات منه، تُطرب الآذان، وترتاح لها الجوانح. وقصارى القول هنا إن الهدية التي يُسْعد العرب أن يتلقوها من جارتهم، الشريكة معهم في الأفق الحضاري الإسلامي، هي انسحابٌ عاجلٌ لكل المليشيات التي استقدمتها في سورية، والتوقف التام عن استباحة هذا البلد، وعن العمل على استتباع ناسه إلى مشروعٍ لا صلة لهم به، فذلك مما سيكون بادرة خيرٍ طيّبةٍ مُثلى، ستعدّ خطوة أولى، وبالغة الجوهرية، في مسار استتباب الاستقرار في سورية، وهو الاستقرار الذي جاءت عليه مقالة محمد جواد ظريف كثيرا، ما أوحى لقارئها أنه الهدية المتحدّث عنها، فيما هو من بديهي الأمور الذي تقتضيه القناعة الحقيقية بما قالت المقالة إن إيران تؤكّد عليه، وهو "عدم التدخل في الشؤون الداخلية لبعضنا بعضاً"، وليس ثمّة ما هو أكثر شناعةً من هذا التدخل السافر، وبالرايات إيّاها المعلومة الأغراض التي ترفعها إيران، ليس في سورية وحسب، بل أيضا في العراق، والذي لا شطط في القول إن حالة وضع إيران يدها العليا عليه يقارب احتلالا مكشوفا له، وأيضا في اليمن، من خلال تغليب فئةٍ خرجت عن الإجماعات الوطنية المحلية، لتُعلي مشروع إيران الظاهر، حتى إذا استنجدت الشرعية في هذا البلد بإسنادٍ عربي لها، عُدّ هذا الأمر، بحسب ما تدأب طهران على قوله من دون حرج، عدوانا عسكريا.
ليس السفور الإيراني الظاهر في سورية والعراق واليمن، وليست محاولات التطاول على سيادة بلدانٍ عربيةٍ أخرى، منها لبنان والبحرين، مظاهر وحيدةً تعاكس ما احتشدت مقالة جواد ظريف بمناوأته ورفضه، فثمّة أوجه أخرى لتدخلاتٍ إيرانيةٍ ملحوظةٍ في مجتمعات عربية. ومن المأمول أن تتيّقن الحكومة التي يمثلها جواد ظريف من أن العرب يشتهون أحسن العلاقات مع إيران، عندما توقف عبث أصابعها المنظورة، وغير المنظورة، في تدخلاتٍ من هذا اللون وذاك.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.