عن مقت الذات واحتقارها

عن مقت الذات واحتقارها

22 مايو 2017

(هيلويز فانديربير)​

+ الخط -
حين يلجأ شخصٌ مكتئبٌ ضجرٌ منزوعُ الطاقة والرغبة في الحياة، كارهٌ نفسه بالدرجة الأولى، إلى الاستماع إلى موسيقى حزينة وأغنيات أقرب إلى البكائيات والتفجع لجلب مزيدٍ من الحزن إلى روحه المثقلة ومشاهدة أفلام الرعب، التي تأتي على الجملة العصبية فتتلفها، وفي التهام الأطعمة الدسمة، والمبالغة في التدخين والإفراط في شرب الكحول، وأحيانا تعاطي المخدّرات، والمضي في تدمير النفس بكل وسائل الخراب المتاحة، مواصلا الأنين والشكوى والتذمر من انعدام الإرادة والعجز عن مقاومة الانصياع لواقع السواد الذي يكتنف حياته، ويميز شخصيته المصابة باليأس المطلق، في هذه الحالة الجلية غير القابلة للبس، نحن بصدد اضطراب نفسي شديد اللهجة يتجسّد في التلذّذ واستمراء الإحساس بالألم والاضطهاد. ومع ذلك، فإن سلوكيات إدمانية مازوشية بالغة الخطورة، ضارّة بالنفس كهذه، تبقى في دائرة الأمراض النفسية الشائعة القابلة للعلاج، وليس صعبا على الطبيب النفسي المختص البارع صاحب الذمة والضمير تشخيصها، وبالتالي السير في علاجها حتى الشفاء، لا سيما إذا أبدى المريض المنكوب رغبةً مخلصةً في الشفاء.
بطبيعة الحال، لن يتأتى له علاج إذا لم يبدأ من نقطة الاعتراف أمام نفسه والآخرين بوجود مشكلةٍ حقيقيةٍ في تركيبته النفسية غير السوية، وذلك خطوة أولى أساسية للخلاص منها. إلى هنا، تبدو الأمور، مهما تعقدت، قابلة للحل، تشهد سجلات المصحات النفسية على إمكانية الشفاء التام والانخراط من جديد في إيقاع الحياة، فردا فاعلا ومؤثرا ومنتجا ومحبا، أما ما يبدو عصيا على أي فهم أو علاج، فهو نموذج المازوشي المستتر غير المعترف بوجود مشكلةٍ من حيث المبدأ، يجد دائما مبرراتٍ غير مقنعة لسلوكه المتخاذل الضعيف بحق نفسه، حين يتعرّض لاعتداءٍ مهما بلغت فداحته، فإنه يتجاوز الإهانة ببلادة، وكأنه يطلب ويستدرج المزيد منها.
خطرت ببالي كل تلك الأفكار، حين صادفت المرأة مهزوزة الشخصية المستلبة الذليلة التي تعرّضت لأشكال من الاضطهاد والأذى من صديق أفّاق، ثبت لها بالدليل القاطع أنه ليس له عهد أو ذمة. المفترض أنه بمثابة شقيق كبير حريص، بحسب وهمها، وهو الذي لا يتوانى عن طعن الآخرين، والحط من كرامتهم بمجرد غيابهم، انسجاما مع طبعٍ خبيثٍ منافقٍ فهلويٍّ، بلا أدنى رصيد من أخلاق، انكشفت خسّته ورخص معدنه أمام الكثيرين، كما ثبتت إساءته اللفظية الفادحة غير القابلة للغفران لدى أي شخصٍ سويّ، حيث يدافع المرء، بشكل غريزي، عن نفسه في العادة. شاهدت المرأة ذاتها التي بكت وانتحبت واستنجدت بالأصدقاء، كي ينصفوها من المهانة الكبيرة والإذلال الذي تعرّضت له أمام الجميع، وهي تسير مجاورة للمعتدي عاجزة عن مواجهة الآخرين بعزةٍ وكرامةٍ واحترام. طأطأت رأسها ارتباكا وخجلا وخزياً، وقد جلّلها عار كبير، فسّر بعض المطلين على الحكاية المؤسفة، ومن باب الرأفة، بأن البنت مسكينة، كانت مضطرة إلى التصالح، على الرغم من ثبوت الإدانه لغاية (ضبضبة) القصة، وكف الألسن عنها التي ستطلق سهامها السامة، في حال تمسّكت بموقف حر.
لذلك تفادت المواجهة التي هي ليست أهلاً لها من حيث المبدأ، لأن المواجهة تتطلب شجاعةً وعنفواناً واعتزازاً بالذات وتمسّكاً بالكرامة، باعتبارها خطاً أحمر، لا يجوز، بأي حال، المساس به. وهناك من ذوي النيات الحسنة من قال إن المجني عليها سامحت من قلبها، وقدموا في هذا السياق مدائح في مفهوم التسامح وإدارة الخد الأيسر الذي سوف يتعرّض لمزيد من الصفعات المدوية حكما، لكن واقع الحال يؤكد أن هذه السيدة تواطأت ضد نفسها، وساهمت في امتهانها، ما يؤكد إصابتها الحادة بأعراض المازوشية، حيث الخضوع المطلق لمن يعزّز فيها مقت الذات واحتقارها، والحط من شأنها، كلما سنحت الفرصة.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.