المغرب.. جدلُ الحراك والذاكرة في الريف

المغرب.. جدلُ الحراك والذاكرة في الريف

22 مايو 2017

محتجون في الحسيمة يرفعون علما أمازيغيا (18/5/2017/فرانس برس)

+ الخط -
منذ مقتل بائع السمك، محسن فكري، في شاحنة نفايات في مدينة الحسيمة المغربية، في أكتوبر/ تشرين الأول الفائت، لم تتوقف حركة الاحتجاج في منطقة الريف، غير أنها أخذت منحىً آخر أكثر تجذّرا في شكلها ومضمونها. آخرها كانت مسيرة يوم 18 مايو/ أيار الحالي، على خلفية تصريح أحزاب الأغلبية الحكومية التي اتهمت حراك الريف بالانفصالية والتمويل الخارجي.
يختزل هذا الحراك المأزق الذي يواجهه الاجتماع السياسي المغربي، فمنذ اندلاع المظاهرات التي أعقبت مقتل فكري، لم تنجح السلطة، بسبب بنيتها المغلقة، في الاستعاضة عن مقاربتها الأمنية بمقاربةٍ أفقيةٍ مغايرة، يتداخل فيها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي. صحيحٌ أنها حاكمت مسؤولين متورّطين في الواقعة، وقدّمت وعودا بتشغيل شباب المنطقة، وإنجاز مشاريع تنموية فيها. لكن، على الرغم من ذلك، لم تستطع أن تقنع المحتجين بوقف مسيراتهم والعودة إلى بيوتهم. لماذا إذن؟
عادة ما تتميز الدول والمجتمعات الحية بقدرة بنياتها ونظمها الاجتماعية والسياسية على تجديد نخبها وقياداتها السياسية والنقابية والأهلية، حتى تتمكّن آليات الوساطة، من أحزاب ونقابات ومنظمات أهلية، من القيام بدورها في تصريف التوتر والاحتقان اللذيْن قد ينجمان عن هذا الحدث أو ذاك، والبحث عن توافقاتٍ تحظى بقبول مختلف الفرقاء، الأمر الذي يساعد على البحث عن حلولٍ للأزمات والحفاظ على السلم الاجتماعي. بيد أن هذا الدور الذي تقوم به هذه الآليات يتطلب شرطا بنيويا، يتمثل في قربها من الرأي العام، واختلاطها بالناس وفهمها مشكلاتهم وانشغالاتهم، بمعنى أنه لا بد من حد أدنى من الثقة والمصداقية، تتوفر عليه النخب على اختلاف مكوناتها.

تدفع السلطة في المغرب اليوم ثمن إصرارها على احتكار الحقلين، السياسي والحزبي، وإضعافها الأحزاب والنقابات الكبرى، ووصايتها على المجتمع المدني، فلو كانت هناك أحزاب ونقابات فاعلة وملتحمة بهموم المواطنين، لأمكن هذه الأحزاب والنقابات اليوم أن ترفع بعض الأعباء عن سلطةٍ أربكتها حسابات حراكٍ لم يكن متوقعا. وعلى الرغم من أن هذه الأحزاب والنقابات حاولت الدخول على الخط، إلا أن ضعفها التنظيمي وانتهاء صلاحيتها حالا بينها وبين الوصول إلى المحتجّين، لأن هؤلاء يعرفون جيدا أن أحزابا ونقابات تعتاش على الريع السياسي، ولا تبحث إلا عن مصالحها الفئوية، لا يمكن أن تقدّم أو تؤخر في مأزق كهذا.
هذا يعني أن بنية الفعل الاحتجاجي في المغرب تعرف تحولا مفصليا، وهذا طبيعي في سوسيولوجيـا المجتمعات المعاصرة، فبقدر ما تتراجع آليات الوساطة المعروفة، بقدر ما تظهر بدائل لها مجسّدةً في احتجاجات عفوية، تؤطرها التكنولوجيا الحديثة والإعلام الاجتماعي.
من ناحية أخرى، لا مبالغة في القول إن المطالب الاجتماعية التي يرفعها حراك الريف تخفي مطالب أخرى، تشكل الذاكرةُ ومخرجاتها عصبَهَا الأساسيَّ، بمعنى أن هذا الحراك يعبر عن نضجِ تمثلٍ جماعيٍّ مشتركٍ بين أبناء المنطقة إزاء الماضي (أحداث 1958 و1959)، حين استخدمت السلطة العنف في مواجهة احتجاجات الأهالي المطالبين أولا بحق منطقتهم في التنمية في مغرب ما بعد الاستقلال، وثانيا بعودة المجاهد عبد الكريم الخطابي من منفاه في القاهرة، على اعتبار أن ذلك كان سيكون اعترافا بتاريخ الرجل، وتقديرا لنضاله واستماتته في مقاومة الاستعمار.
تحولت هذه الأحداث الدامية إلى مغذٍّ هُوياتي للأجيال المتعاقبة في الريف، تُعزّز شعورها بالانتماء إلى منطقةٍ وهويّةٍ جريحتين في مواجهة سياسات التهميش الاقتصادي والاجتماعي. صحيح أن الدولة فتحت ملف الانتهاكات الجسيمة التي عرفتها هذه الأحداث ضمن ما أنجزته هيئة الإنصاف والمصالحة قبل سنوات، إلا أن ذلك ظل بالنسبة لساكنة الريف غير كاف، ما دام هناك إصرار على عدم أخذ مسألة الذاكرة الريفية بالاعتبار، لا سيما في جوانب على قدر هائل من الرمزية، مثل عودة رفات عبد الكريم الخطابي، وإكمال مشروع بناء متحف الريف، هذا من دون إغفال أن الطرفين (السلطة والريف) يجرّان خلفهما تاريخا غيرَ هَيِّنٍ من التوتر في علاقتهما، سواء قبل الاستقلال أو بعده. ولهذا، لم يكن مقتل محسن فكري، في الواقع، إلا النقطة التي أفاضت كأسا ظلت تمتلئ في صمتٍ قرابة ستين عاما.
لا ننكر أن حراك الريف يعكس تطلع الأهالي إلى حصة منطقتهم من التنمية والتشغيل والتعليم والصحة والخدمات الاجتماعية الأخرى، لكنه، في الوقت نفسه، يستبطن الحاجة للاعتراف بتاريخ المنطقة ودورها في مقاومة الاستعمار في واحدةٍ من أكثر تجارب التحرّر الوطني توهجا ورمزية في القرن العشرين، وأيضا إنجازَ مصالحة حقيقية مع ماضي الانتهاكات الجسيمة في المنطقة، مع ما يستتبع ذلك من جبر الضرر الجماعي والانخراط في سياسة مغايرة للذاكرة في المنطقة، تتداخل فيها الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والهوياتية.
لكن، في المقابل، هناك أمر لا بد من الوقوف عنده، فحين يرفض المحتجون في الريف اتهام السلطة لهم بأنهم انفصاليون، يحق لنا، في المقابل، أن نتساءل هنا: لم غاب العلم الوطني عن مسيرة يوم 18 مايو/ أيار الحالي، ما دام خيار الانفصال غير واردٍ تماما، حسب ما يقول قادة الحراك؟

نُدرك أنه حين يُرفع العلم الأمازيغي، فإن في ذلك إحالةً على أحد المكونات الثقافية والاجتماعية للكيانية المغربية، وحتى حينما يرفع علمُ جمهورية الريف (1921- 1926)، فإن ذلك قد يبدو مستساغا، لأن فيه إحالةً على الإرث النضالي والرمزي للمقاومة التي قادها الخطابي ضد الاستعمار.
ويتضمن عدم رفع العلم الوطني في مسيرات الريف رسالة دالة من المحتجين، وبالتالي يصبح المطلب الاقتصادي والاجتماعي مجرّد تكتيك لاستراتيجية بعيدة المدى بلا مصدر ولا أفق، هذا في وقتٍ تمر فيه القضية الوطنية بمنعرجاتٍ في غاية الخطورة. كنا ننتظر أن يرفع المحتجون، في مسيراتهم، العلمَ الوطني حتى يُخرسوا ألسنة أحزاب الأغلبية الحكومية، وكأن لسان حالهم يقول لها: نحن أبناء الريف لا نقل وطنيةً عن غيرنا من مكوّنات الشعب المغربي، واتهامكم لنا بالانفصالية باطل، ويجب أن تعتذروا لنا.
سيكون رائعاً لو أن مسيرات الريف تزيد على سلميتها ونجاحها التنظيمي بمنسوبٍ من الوطنية، الأمر الذي سيتحول إلى رسالة أخرى، لا تقل دلالًة عن الرسالة التي تضمنها غياب العلم الوطني عن هذه المسيرات.
من العوائق التي تواجه الاجتماع السياسي في المراحل الانتقالية للشعوب والمجتمعات تلك العلاقة المركبة بالذاكرة، فبقدر ما تنجح الأطراف المعنية في استيعاب الماضي، على ما فيه من تجاوزات وانتهاكات، بقدر ما يكون ذلك مدخلا لتدبيرٍ متوازن وعقلاني ومنصفٍ لهذه الذاكرة.