وثيقة المبادئ.. محاكمة حماس بأداء فتح

محاكمة حماس بأداء فتح

21 مايو 2017
+ الخط -
تعرّضت وثيقة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) السياسية، في الأيام الماضية، لكثير من القراءات والتحليلات بين رافض وداعم ومتخوف ومخوّن. وقد اعتبرت تعليقات كثيرة الوثيقة مساراً يتكرّر في الحياة الفلسطينية السياسية، وأنها بداية مغامرة جديدة معروفة النتائج. والمقارنات بين حركتي فتح وحماس، وأن الأخيرة على خطى الأولى، ليست هراءً بالتأكيد، وليست قصوراً في الفهم والاستنباط، بل قد تكون مفهوماً ابتدائياً ومنطقياً في النقد التاريخي للورقة.
حجم النقد والتحليل، وحجم التخوف من الدخول بمسار سياسي مجرّب، يعطي "حماس" رصيداً كبيراً كطرف ربما هو الأمل الوحيد ليكون بديلاً عن الوضع التائه اليوم، هذا الوضع الذي بدوره وقع تلقائياً تحت استفتاء شعبي من أصحابه، قبل خصومه بسبب الوثيقة. وقد لا تكون ثمة مبالغة في أن جلّ، وربما كل، انتقادات "فتح" ومنظمة التحرير الفلسطينية وثيقة حماس تنبع من هذه النقطة فقط، أي الخوف من البديل المنتظر عن الحالة العقيمة اليوم. هذا مهم لدى الدخول في تحليل الوثيقة ومضمونها، فقبل قراءة المضمون، لا بد من قراءة السياق الذي تأتي فيه هذه الجملة من المبادئ، والتي مهما تحدثنا عن قِدمها وتكرارها في خطاب "حماس"، فهي جديدة، وسياقها يقوم لأول مرة في تاريخ حماس.
لطالما دخلت "فتح"، ومن خلفها منظمة التحرير، في تنافس محموم مع حركة حماس التي نحجت في أن تقف وحدها منافساً كبيراً للحلف الفلسطيني التقليدي لفصائل المنظمة، وهو حلف يشبه المرحلتين، الإقطاعية والبرجوازية، في حياة الريف العربي، الذي اعتمد على مقايضة القوت بالولاء لمالك وسائل الإنتاج، كما تعرّفها أدبيات اليسار. وبين صعود "حماس" وفقدان كل جدوى وطنية من العلاقة المشوّهة بين فصائل المنظمة و"فتح"، بقيت الأخيرة تحتفظ بسند الطابو (سجل الملكية العقارية) المتمثل بـ "الشرعية الفلسطينية".

"الشرعية الفلسطينية" تعبير مجازي هنا عن التموضع الفلسطيني السياسي في عالم العلاقات الدولية بمحدّداته النظرية والواقعية بدءاً باللاعبين، من منظمات وحكومات، إلى الوحدات الفاعلة المتمثلة بـ "الدولة"، أو من خلال نظام سياسي ما دون الدولة، والذي تعتبر المنظمة وسلطتها الوطنية في الضفة الغربية وقطاع غزة أحد مظاهره في المنطقة. كل نضال منظمة التحرير لم يكن شيئاً بدون شرعيةٍ ما في المجتمع الدولي الذي لا يمكن تجاهله مع كل شعارات العفّة والنقاء السياسي، والثورات التي تتحرّك بمعزلٍ عن هذه الاعتبارات قصيرة الأمد من حيث الزمن، ومن حيث الإطار السياسي المستهدف من اندلاعها، ونجاحها ممكنٌ ضمن هذه الحدود، وصعبٌ في الفضاءات الأوسع التي لا يمكن اعتبارها فراغات خاوية من التفاعلات الملزمة.
لم تكن منظمة التحرير الفلسطينية أكثر من ثورةٍ، تجاوزت إطارها الزمني والسياسي في 1974، حين تبنت البرنامج المرحلي، أو ما يعرف ببرنامج النقاط العشر. وباتت تدرك أنها ملزمةٌ بالبحث عن شرعية ما في الإقليم أو المجتمع الدولي، كي لا يتحول حجمها المتنامي إلى عبء عليها، وعلى قضيتها برمتها. بعد تبني برنامج النقاط العشر في دورة المجلس الوطني في القاهرة في يونيو/ حزيران من 1974، مدفوعاً بزخم الفعل الفلسطيني وشعبيته في السبعينيات، منحت جامعة الدول العربية بعدها بأربعة أشهر فقط أول شرعيةٍ لمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً وحيداً للفلسطينيين في قمة الرباط، وبعدها بشهر استقبلت منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة عرفات بمسدسه وغصن زيتونه في خطابه الشهير حينذاك.
والشاهد أن البرنامج المرحلي لم يأتِ تحت وطأة تغيرات هيكلية في العالم والإقليم، ولا في جانب الضيق الوطني وانعدام مخارجه، وإنما في ظل اتساع رقعة الفعل الوطني، والبحث عن بنوكٍ سياسيةٍ لتصريف مدخراته المتنامية، من دون إغفال أنه جاء مراجعة داخلية لتجربة الوجود الفلسطيني المسلح في الأردن، وما أعقبه من أحداثٍ دامية في أيلول الأسود وتأزم علاقاته العربية.
لم تفقد المنظمة، بعد برنامج النقاط العشر، شرعيتها الشعبية، والتخوين الذي حصل بتشكيل جبهة الرفض كان مدفوعاً بالخلافات العربية أكثر منه قناعةً فلسطينية، أو عربية خالصة، فجبهة الرفض المدعومة من العراق وليبيا حينها انتهت بعد أقل من خمس سنوات بالتقارب السوري العراقي، وانعقاد المجلس الوطني في دمشق بجميع الفصائل سنة 1979. وكانت معظم الانتقادات الموضوعية والمستقلة التي وُجهت للبرنامج المرحلي لاحقة عليه بسنوات، تحديداً بعد مؤتمر الجزائر عام 1988، والاعتراف بالقرارات الدولية الخاصة بأراضي العام 1967، ودخول المنظمة نفق التفاوض بلا أفق والاعتراف الضمني، ثم الرسمي، بالاحتلال. ويمكن القول إن البرنامج المرحلي ربما متقدم على وثيقة "حماس" من حيث سقف الصياغة السياسي. هذا ليس دفاعاً عن البرنامج المرحلي الذي حوكم موضوعياً بعد سنوات طويلة، على خلفية المآلات التي انتهى إليها أصحابه في مؤتمر الجزائر، ثم اتفاق أوسلو، وصولاً إلى سلطة التنسيق الأمني، بدلاً من "السلطة الوطنية ورفض الحدود الآمنة" التي نص عليها برنامج النقاط العشر، وإنما للقول إن محاكمة وثيقة البرنامج المرحلي كانت مقترنةً بالواقع الذي أفضى إليه سلوك المنظمة. بينما تحاكم وثيقة حماس اليوم بأداء غيرها، وتُخوّن وتُجرّم الحركة وطنياً لدى بعضهم، لفعلٍ اقترفه غيرها عبر العقود الماضية، فيما أداؤها الوطني في الحلبة الدولية لم يأخذ مساره الحقيقي حتى الآن.

تقدّم وثيقة حماس نفسها بديلاً للأداء، وشريكاً في الشرعية التي انتزعها الفلسطينيون في منتصف السبعينيات، بفعل الاعتدال المطلبي وطنياً، المصاحب لأداء نضالي فاعل على الأرض. وفيما يتجاوز البرنامج المرحلي للمنظمة وثيقة حماس، في بعض الصياغات، فإن الوثيقة تتجاوز النقاط العشر في السياق والتوقيت، فالسياق مأزوم، وأعقد بمراحل كبيرة مما كان عليه الوضع الفلسطيني في سبيعينات القرن الماضي. كما أن الهيكل الدولي المحكوم اليوم بأحاديةٍ، أو تعدديةٍ قطبيةٍ، كان محكوماً في السبعينيات بثنائيةٍ أوجدت توازناً ما استفاد منه الفلسطينيون. والأهم من هذا كله أن الوضع الداخلي الفلسطيني لم يكن محل تنازع وطني بين مسارين متعاكسين، وهو، في أسوأ الحالات، كان محل تنافس وشقاق محكوم بالحزبية والفصائلية التي طبعت المشهد الفلسطيني، ولاتزال، منذ عقود. جاءت وثيقة "حماس" في توازنات وتفاعلات دولية وإقليمية، طالبتها بما هو أكثر منذ 30 عاماً، حين انطلقت الحركة، والعالم يسلم مفاتيحه كلها للهيمنة الأميركية، الراعي الأمثل للاحتلال الإسرائيلي.
إعلان الوثيقة في توقيتٍ ما يمكن أن يخضع لحسابات كثيرة، وكل التحليلات التي تضعها ضمن مقارباتٍ زمنيةٍ وسياسيةٍ، من قبيل لقاءات "حماس" مع توني بلير أو ظروف الربيع العربي، أو انتهاء ولاية خالد مشعل، كلها مقارباتٌ تستند لجزئياتٍ موضوعية، لكنها لا تعطي التفسير الكلي للسياق الذي تصعب قراءته منعزلاً عن الواقع الفلسطيني الداخلي، والتوازن الإقليمي الذي يتفاعل في مرجلٍ لم يخرج منذ ثلاثة عقود عن خطوط الضبط الدولية باستثناء شهور الولادة العسيرة للربيع العربي التي أسفرت عن وليدٍ خديج، لم يجد حواضنه المؤهلة، إضافة إلى العالم الذي تغيرت منحنيات تأثيره، ونمت فواعله لصالح الاحتلال، والتي كانت أبرز تجلياتها الحملة الدولية للحرب على الإرهاب، حيث من الممكن ممارسة كل موبقات الحرام السياسي والقانوني تحت عباءته.
المقارنة بين الخط الذي انتهجته منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة "فتح" وخط "حماس" الذي عبرّت عنه الوثيقة، مشروعة ومهمة في ضبط إيقاع الحركة السياسي. لكنها تبقى قاصرة ما لم يناقش السياق والظروف السابقة واللاحقة. وتبقى المقاربة القطعية بينهما ظالمةً، ما لم ننتظر أداء "حماس" وفرصتها التي لا تبدو أنها بين يديها، كما حصل مع ياسر عرفات الذي قطفها سريعاً خلال شهور في الاعتراف العربي والدولي بالصفة التمثيلية والشرعية لمنظمته. ولا يبدو أن "حماس" ستحصل على أي ثمرة مشابهة، أو أقل، في الأفق المنظور، بحكم الظرف الدولي والإقليمي الذي يختلف كلياً عن عالم السبعينيات.
كانت "حماس" التي تعتبر نفسها أكثر من دفع أثمان المواقف الجذرية الأقل حظاً في الحصول على نصيبها المستحق من "الشرعية الفلسطينية" المأسورة لصالح مسار وفصيل بعينيهما، والمتحصلة أصلاً بسبب عدول عن الجذريات الوطنية. ووثيقة "حماس" هي اليوم الخطوة العقلانية ربما من أجل تحصيل حقها، الذي هو حق طيف واسع من الشعب الفلسطيني في توزيع "الشرعية" على كل شرائحه. تمثل مسألة التوزيع العادل للشرعية ضمانة وطنية وسياسية للحد من الانزلاقات، بقدر قد يفوق التخوفات التي حذّرت من اللحاق الأعمى بمسار منظمة التحرير وقيادة "فتح" السياسي.
وختاماً، من الصعب جداً التكهن بسلامة المسار الذي عبّرت عنه "حماس" في وثيقتها الجديدة، ولكن الأصعب هو الحكم مسبقاً على المآلات التي لم تحدث بعد. وعليه، فإن التخوف والنقد مشروعان، وهما ضمانة ورصيد ينبغي على "حماس" تشجيعهما وتأييدهما، أما التخوين والأحكام المطلقة والنهائية (سواء بالسلب أو الإيجاب) فهي ذات منبعٍ قد يكون منطقياً في البناء، ولكنه ليس كذلك في الأساس.
E0652F04-7ADB-4F10-9CC3-D4A84BCC3DD3
طارق حمود

كاتب وناشط فلسطيني مقيم في لندن