لا دولة فلسطينية في غزة... ولا غير غزة

لا دولة فلسطينية في غزة... ولا غير غزة

03 مايو 2017
+ الخط -
كثر الحديث، في الآونة الأخيرة، عن مشروع دولة فلسطينية في غزة، وتعزّزت هذه الفرضية، بحسب كتاب ومحللين وسياسيين فلسطينيين وعرب، بعد تصريحات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، عما سماها "صفقة القرن"، عقب لقائه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وأيضًا إثر القرار المفاجئ الذي اتخذته حكومة السلطة الفلسطينية باقتطاع البدلات من رواتب موظفي السلطة في قطاع غزة، ما يعني تقليصها من 30 إلى 50%، مع دراسة إحالة كل موظفي القطاع إلى التقاعد، وهو ما اعتبر في نظر متابعين كثيرين خطوةً في سياق تخلي السلطة نهائيًا عن غزة، تمهيدًا لمشروع كياني منفصل في القطاع. 

بدايةً، لا بد من تأكيد أن انفصال غزة عن الضفة واقعٌ قائم، وتم ترسيخه سنواتٍ طويلة سبقت سيطرة حماس على القطاع، من الاحتلال الإسرائيلي الذي فصل بين الضفة وغزة جغرافيًا منذ تأسيس الكيان الصهيوني، ثم عزلهما ديموغرافيًا بالتدريج بعد توقيع اتفاقية أوسلو. وقد أتاح هذا الواقع الموضوعي الذي فرضه الاحتلال عمليًا إمكانية قيام نظامين متخاصمين في كل من الضفة والقطاع.
إن كانت إسرائيل هيأت الظرف الموضوعي للانقسام الفلسطيني، فإن العامل الفلسطيني الذاتي تأسس فلسطينيًا قبل سيطرة حركة حماس على غزة بعقود، وتحديدًا منذ ما بعد هزيمة يونيو/ حزيران بسنوات قليلة، حين انطلق سياقٌ سياسيٌّ فلسطيني مركزي قَدّم مسألة الكيانية على مسألة التحرير، حتى همّش تلك الأخيرة تمامًا، وأضحت الكيانية (أي الدولة) هي المشروع الوطني الفلسطيني. من هنا، بدأ انقسام سبق تأسيس حركة حماس بين من تمسّك بمشروع التحرير أولوية ومن قدّم مشروع الدولة. ومع انطلاقة "حماس"، أصبح هناك انقسام ثانٍ، لم يلغ الأول، بين طرفين تنازعا التمثيل الفلسطيني (حركتا فتح وحماس) في ظل تبنيهما مشروع الكيانية، أحدهما بشكل معلن والثاني ضمنيًا قبل أن يعلن عن ذلك بالتدريج.
قام مشروع الدولة بالأساس وما ترتب عليه من ولوج في عملية تسوية سياسية على افتراضين؛ الأول أن إسرائيل مستعدة للقبول بكيان فلسطيني مجاور، إن توفّر لها الأمن وإقامة علاقات 
طبيعية مع الدول العربية. والثاني أن النظام الدولي يمكن أن يضغط على إسرائيل للقبول بدولة فلسطينية لإنهاء الصراع في الشرق الأوسط. وقد أثبتت التجربة، خصوصا في العقدين الماضيين، خطأ كلا الافتراضين؛ فإن كانت إسرائيل مستعدةً لقبول وجود دولة فلسطينية من حيث المبدأ، ماذا كانت تريد لضمان أمنها أكثر من تخلي قيادة الشعب الفلسطيني، برئاسة ياسر عرفات، عن معظم أرض فلسطين التاريخية، والإقرار أنها تشكل أرض إسرائيل، وإعادة بناء مؤسسات السلطة الأمنية، بإشراف أميركي، ورفع مستوى التنسيق الأمني بشكلٍ أثبت فعاليته في حماية إسرائيل ومستوطناتها في ظل القيادة الحالية، ماذا تريد إسرائيل أكثر من ذلك كله لضمان أمنها؟ وماذا تريد من العرب أكثر من مبادرتهم (سيئة الذكر) للسلام، وقد تخلّوا بموجبها عن حق عودة اللاجئين مجانًا، وأعلنوا استعدادهم لتطبيعٍ كامل للعلاقات، بمجرد توقيع اتفاق سلام فلسطيني إسرائيلي؟
ثم ما المطلوب من إسرائيل أن تفعل أكثر مما فعلته من توسيع للاستيطان، وبناء جدار الفصل العنصري، وقطع أوصال الضفة الغربية، وعدم تجاوبها مع المبادرة العربية للسلام؛ ليمارس عليها ضغط دولي، إن كانت مسألة السلام في الشرق الأوسط تحظى بتلك الأهمية لدى المجتمع الدولي التي يفترضها الفلسطينيون والعرب؟
ألا يشير ذلك كله، وبوضوح، إلى أن إسرائيل ترفض، من حيث المبدأ، قيام دولة فلسطينية، ضمن أي صيغة وتحت أي قيد أو شرط، وأنه لن يمارس عليها ضغط دولي، مهما فعلت، لأن وجود إسرائيل قوية ومهيمنة هو الأولوية الحقيقية للمجتمع الدولي، لا السلام في الشرق الأوسط؟
لماذا، إذن، نجد بين الفلسطينيين من لا يزال يراهن على تسويةٍ سياسيةٍ، تتمخض عنها دولة فلسطينية، على الرغم من كل المؤشرات التي تؤكد عدم واقعية ذلك؟ ولماذا لم يعد هناك طرفٌ فلسطيني يحمل مشروعًا عمليًا لتحرير كامل التراب؟
لم يكن تبني القيادة الفلسطينية مشروع الدولة مجرد اجتهاد فكري/ سياسي، بل كان انعكاسًا لطبيعة تلك القيادة التي تم اصطفاؤها عربيًا، والاعتراف بشرعية تمثيلها، لأنها "واقعية" وغير "مغامرة"، وفق فهم النظام العربي من جهة، وكذلك انسجامًا مع التغيّر في الوضع العربي، بعد غياب القطب الناصري من جهة أخرى، فمنظمة التحرير، وقد كانت منذ انطلاقتها جزءًا من النظام الرسمي العربي، ما كان في وسعها أن تتبنى خيارًا جذريًا، كخيار النضال لتحرير كامل الأرض الفلسطينية، في ظل نظام عربي هيمنت عليه الأنظمة المرتبطة بالمنظومة الدولية الأميركية.
مرّت حركة حماس بالسياق نفسه تقريبًا، تأسّست حركة مقاومة تسعى إلى تحرير كامل التراب، ثم بدأت سريعًا تقدّم نفسها منافساً لمنظمة التحرير على تمثيل الفلسطينيين أمام "المجتمع
الدولي"، حتى تورّطت بالسيطرة على قطاع غزة، مقيمة عليه سلطتها تحت الاحتلال، وهو أمر ما كان لحركة مقاومةٍ تنادي بالتحرير أن تقع فيه، إن كانت تدرك أن الوحدة السياسية لشعبٍ منقسم جغرافيًا وديموغرافيًا مسألة حيوية ومصيرية. على من يجادل أن "حماس" أرادت أن يكون قطاع غزة قاعدةً للتحرير، في معزل عن قيادة منظمة التحرير المهادنة، أن يفسّر لنا كيف يمكن للإقليم المحاصر المكتظ بالسكان أن يكون كذلك، واقتصاده يعتمد بشكل كامل على التحويلات المالية الخارجية المقدّمة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والخليج العربي التي تذهب إلى غزة، عبر السلطة الفلسطينية ووكالة الغوث والمؤسسات الأهلية؟
وقبل الانقسام الفلسطيني، وقبل موت عملية التسوية؛ قوّضت إسرائيل، عمليًا على الأرض، الإمكانات الواقعية لقيام دولة فلسطينية، ووفرت السياسات الإسرائيلية الشروط الموضوعية للانقسام الفلسطيني، والذي من أهم أسبابه النزعة الكيانية في المشروع الوطني الفلسطيني، وهيمنتها على أطرافه.
اليوم؛ من الواضح أن هناك ترتيبات معينة يجري إعدادها لقطاع غزة، بتوافقٍ عربي ودولي إلى حد بعيد. وفي سياق هذه الترتيبات، ومؤشراً على وجودها، في الوقت نفسه؛ جاء انفتاح مصر، أخيرا، على مجتمع غزة بشكل مباشر، متجاوزةً القيادة الفلسطينية الرسمية، وبلا تنسيق مع حركة حماس المسيطرة على القطاع، وبدأ ذلك بدعوتها مثقفين وسياسيين وشخصياتٍ مجتمعية في غزة إلى مؤتمرٍ في أحد منتجعات العين السخنة، 16 أكتوبر/ تشرين الثاني 2016، ثم توالت الدعواتُ لقطاعاتٍ وفئاتٍ مجتمعيةٍ غزّية مختلفة، وتم فتح معبر رفح فترات زمنية أطول مما كان خلال السنوات الثلاث الماضية، وبفواصل زمنية أقل بين الفتحة والأخرى، أيضًا من دون تنسيق مع القيادة الفلسطينية، حيث كانت سفارة فلسطين في القاهرة تعلن عن موعد فتح المعبر في السابق، وهذا توقف بعد مؤتمر العين السخنة.
ما يجري ليس تمهيدًا لدولة فلسطينية في غزة، إذ لا ترغب إسرائيل بكيان سياسي فلسطيني، ضمن أي حدودٍ أو شروط، وإلا لتجاوبت مع المساعي التركية بعد الحرب على القطاع أخيرا، ولا مصر مستعدة أن تقبل بكيان سياسي على حدودها تحت حكم حركة حماس، إخوانية المنشأ والفكر الأيديولوجي. من الواضح أن الأمور تتجه نحو انفتاح قطاع غزة معيشيًا واقتصاديًا على مصر، مع إبقاء الوضع القانوني للقطاع عائمًا فترة قد تقصر أو تطول، ثم في مستقبل ما يمكن أن يتم العمل على إيجاد شكل دون سِيادِيْ من الحكم الذاتي لسكانه، منفصلٍ عن السلطة الفلسطينية.
أما الضفة الغربية؛ فأدق توصيف لوضع سكانها الفلسطينيين المستقبلي هو: لاجئون على أرضهم الذي أطلقه الكاتب سلامة كيلة، فتستمر عملية حشرهم في معازل سكانية، تنفتح حياتيًا، وربما بدرجة ما سياسيًا على الأردن. تقول كل المؤشرات اليوم إن الأمور تسير نحو حل للقضية الفلسطينية، يقوم على تصفيتها بتورّط (وتواطؤ) الأطراف الدولية والعربية، وللأسف الفلسطينية الفاعلة.