مصابيح الحرية

مصابيح الحرية

19 مايو 2017
+ الخط -
نقل النظام الأسدي مساجين أحد أقسام سجن صيدنايا الذين يقدّر عددهم بـ 1800 إنسان، إلى مكانٍ مجهول، ربما في ردٍّ على إعلان مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، قرب التوصل إلى حلٍّ لمشكلة معتقلي السلطة الأسدية، من دون أن يعرف تاريخ تطبيقه.
من الطبيعي أن يثير الخبر الخوف ممّا قد يتعرّض له هؤلاء من تصفيتهم، على مألوف الأسدية في مثل هذه الحالات التي دأبت على تصفية خصومها، واتهمت أعداءها بقتلهم، مثلما فعلت مراتٍ عديدة، أبرزها ما حدث لمئات المعتقلين اللبنانيين في سجون وحدات الجيش الأسدي العسكرية الذين تمت تصفيتهم بدم بارد، بمن في ذلك عشرات السجينات منهم، ثم أبلغ ذووهم أن "فتح" قتلتهم، لأنهم كانوا يتعاونون معه. أو ما حدث للسوريين الذين قاتلوا مع "فتح"، وتمت تصفيتهم في مختلف السجون السورية، ثم أبلغ أهلوهم أن "فتح" قتلتهم.
لا يستبعد أبداً أن تصفي السلطة السورية معتقلي سجن صيدنايا أو حمص، وهي التي اعتادت تصفية سجنائها بعشرات الآلاف، كما تؤكد صور قيصر والتي نشرت بعدها، وبلغ عددها قرابة ثلاثين ألف صورة لسوريين قُتلوا تعذيباً وتجويعاً وإحراقاً وإغراقاً، فضلاً عن الذين تم تذويبهم بالأسيد، وإحراقهم في فرنين زوّدت "جمهورية إيران الإسلامية الشقيقة" النظام بهما، في واقعة تذكّر بما فعله النازيون، قبل الحرب العالمية الثانية وخلالها، بمعتقليهم الألمان وأسراهم الروس والفرنسيين والبولونيين... إلخ، عندما حولوا القتل من حرفةٍ يدوية إلى صناعة آلية لها خططها وموادها الأولية البشرية وأدواتها ومراحلها... إلخ.
أسمح لنفسي بمقارنة ما يجري في سجون النظام بما سبق أن جرى في سجون النازية الهتلرية والفاشية الستالينية. ألم يقتل النظام أكثر من مليون سورية وسوري خلال أعوام الثورة الستة، ويرسل بعد أيام من قيام الثورة السلمية بمئات المعتقلين إلى سجن عدرا المدني، وقد سلخت جلودهم عن أبدانهم بالمكواة. وثقبت صدور بعضهم بمثاقب المعادن. وكيف تكون النازية أشد من نازية نظام هذا سلوكه، ردّ بمثل هذه الوحشية على مواطنين يذكّرونه بتطبيق وعد الحرية، الذي قدّمه لهم طوال نصف قرن، ويكرّره كل يوم بألف لون ولون، وبتحويله إلى واحدةٍ من حقائق حياتهم التي لم تعد تستحق العيش.
تعجّ السجون السورية، المعروفة والسرية، بمئات آلاف المعتقلين الذين يقبعون فيها منذ أكثر من خمسة أعوام، من دون أن يكون لهم أي حق، بما في ذلك حق الحياة الذي يكفله الدستور السوري وجميع الديانات والأعراف والقيم الإنسانية. ولو أجرى المرء إحصائية لعدد من سُجنوا من السوريات والسوريين مذ قامت الثورة، لوصل إلى عددٍ مليونيٍّ، ونسبة قد تصل إلى ما بين 5 و7% من الشعب السوري، قتل منهم تحت التعذيب في فترات ذروته ما بين خمسين إلى سبعين معتقل يومياً، في حرب إبادة أنجزها لصوص أجهزة الأمن الطائفيون وجلادوهم، رفدت حرب الإبادة الجارية في القرى والبلدات والمدن السورية التي خاضها أشاوس جيش الأسدية الجبناء الذين دأبوا خلال أربع حروب مع إسرائيل على الفرار كالأرانب أمام أول جندي إسرائيلي يرونه، وترك ما تحت أيديهم من أرض وسلاح وبشر له، لكنهم استأسدوا على من يفترض أنهم مواطنوهم، وأبدوا من ضروب الاستعداد للقصف والتدمير والقتل ما يعجز القلم عن وصفه.
لذلك، يتوزّع شعب سورية اليوم على أربع فئات: القتلى والجرحى والمشوهون والمقعدون. ثم المعتقلون والمغيبون والملاحقون والمعذبون والمغتصبون من النساء والرجال، يليهم المهجّرون والمرحلون والمطرودون والمشرّدون... خارج سورية وداخلها، وتحتسب عليهم فئة الموتى بالقصف والقنص خلال ترحيلهم، والغرقى في مختلف البحار والأنهار والبحيرات، والضائعون الذين وصل منهم إلى ألمانيا وحدها عشرة آلاف طفل، لا أسر لهم، وأخيراً حملة السلاح على الرغم من اختلاف رهاناتهم ومشاربهم. هذا هو التوزيع الأسدي الجديد لشعب كانت أغلبيته تنضوي في فئاتٍ بينية تنتمي إلى الطبقة الوسطى، عرفت بمستوى تعليمها ومهنيتها، وتحضّرها.
لا يجوز بعد اليوم أن نعتبر معتقلينا حالاً باردة، ننتظر حلها على أيدي الآخرين، من دون أن نفعل شيئاً لهم. ولا يجوز التعامل مع مئات آلاف السوريات والسوريين وكأنهم ليسوا منا ولسنا منهم. لذلك يجب أن نؤسس هيئة وطنية تضم قضاة ومحامين وإعلاميين وساسة وممثلي مجتمع مدني وقادة فصائل حرة ورجال دين تتولى إثارة قضيتهم والدفاع عنهم في جميع المجالات، ولإخراجهم من قبضة القتلة الذين يتولون حراسة بؤسهم، ريثما يطلقون النار عليهم ويردونهم.
E4AA2ECF-ADA6-4461-AF81-5FD68ED274E9
ميشيل كيلو

كاتب سوري، مواليد 1940، ترأس مركز حريات للدفاع عن حرية الرأي والتعبير في سورية، تعرض للاعتقال مرات، ترجم كتباً في الفكر السياسي، عضو بارز في الائتلاف الوطني السوري المعارض.