لم تفز لوبان، ولكن...

لم تفز لوبان، ولكن...

13 مايو 2017

لوبان في باريس.. أصوات جرس إنذار(7/5/2017/Getty)

+ الخط -
فاز مرشح الوسط وزعيم 'حركة إلى الأمام'، إيمانويل ماكرون، في الاقتراع الرئاسي الفرنسي، بعد أن حاز على 66,10% من الأصوات المدلى بها، مقابل 33,90% لفائدة مرشحة الجبهة الوطنية، مارين لوبان. نتيجةٌ تنبأت بها بعضُ استطلاعات الرأي عقب المناظرة التلفزيونية التي جمعت المرشحين، حيث بدا ماكرون أكثر إقناعاً بالنسبة لثلثي المشاهدين، بينما حظيت زعيمة الجبهة الوطنية بتأييد الثلث المتبقي. 

أعاد ما حدث إلى الأذهان سيناريو اقتراع عام 2002، حين تواجه في الدور الثاني جاك شيراك، والزعيم التاريخي للجبهة جان ماري لوبان. حينها تمكّن شيراك من الفوز، بعد أن حظي بتأييد واسع من اليسار لقطع الطريق على لوبان. ويتكرّر السيناريو اليوم، مع فارق دال في السياق والأدوار والارتدادات المحتملة التي قد تترتب عن تصويت ثلث الفرنسيين لليمين المتطرّف، فلأول مرة منذ تأسيس الجمهورية الخامسة عام 1958 يصل إلى قصر الإليزيه رئيسٌ من خارج التيارين السياسيين التقليديين: اليمين الجمهوري واليسار الاشتراكي، وهو متغيرٌ على قدر كبير من الأهمية، يعكس الأزمةَ العميقة للسياسة الفرنسية التي باتت بحاجة لدماء جديدة، تُضخ في جسدها المريض، عن طريق استراتيجياتٍ بديلة قادرة على التصدّي لخطاب العنصرية والانعزالية الذي يروجّه اليمين المتطرف.
بيد أنه من الصعب الجزم بأن الذين منحوا أصواتهم لماكرون فعلوا ذلك بسبب خطابه حول قيم التعايش والانفتاح، والتصدّي للإرهاب، والانخراط في العولمة، والتمسك بحلم الاتحاد الأوروبي. لا يمكن تجاهل حقيقة أن قطاعا واسعا منهم فعل ذلك بسبب المخاوف المتزايدة من التمدّد الهادئ لخطاب اليمين الشعبوي داخل المجتمع، وهو ما تؤكده الأرقام المتعلقة بمسار مشاركة الجبهة الوطنية في الانتخابات الرئاسية خلال العقدين الأخيرين. ففي اقتراع 1988 حصلت على 14,38% من الأصوات، وفي 1995 نالت 15%، وحازت في الدور الثاني من اقتراع 2002 على 17,79%، قبل أن تتراجع في 2007 إلى 10,44%، ثم تعاود الصعود في اقتراع 2012 بـ 17,90 %، وصولا إلى اقتراع 2017، حيث فازت بـ 21,30 % في الدور الأول، و33,90% في الدور الثاني.

تعني هذه الأرقام، في جانب كبير منها، أن الذين صوّتوا لماكرون ليسوا كلهم، على الأرجح، مقتنعين ببرنامجه، وما يعتزم تطبيقه من سياسات وإجراءات مختلفة، وهو الذي لم يتردّد في إعلان نيته إدخالَ تعديلاتٍ على قانون العمل، ودعمَ أوساط المال والأعمال. إنه تصويت تكتيكي، يعكس مخاوف من اتساع رقعة نفوذ الجبهة داخل الشارع الفرنسي المنقسم، واحتمال وصولها إلى السلطة في بلدٍ بات يشكل فيه المهاجرون والأجانب والأقليات الدينية والعرقية رقما أساسيا في الاستقرار الأهلي والاجتماعي، وهو وضعٌ لا يختلف كثيرا عن بلدان أوروبية أخرى تعرف صعودا لافتا لتشكيلات اليمين المتطرّف.
صحيح أن الجبهة الوطنية خسرت الاقتراع، لكنها نجحت في توسيع دائرة أنصارها وزيادة أعدادهم، بعد أن اقترب عدد الذين منحوها أصواتهم من 11 مليون ناخب، يُمثلون تكتلا مجتمعيا غاضبا من التهميش الناتج عن الركود الاقتصادي، وارتفاع نسبة البطالة، وتزايد خطر الإرهاب، ما يعني أن السياسة الفرنسية تواجه، فعلا، مأزقا بنيويا يصعب التنبؤ بتحولاته في مقبل الأيام، خصوصا مع تفاقم إشكالات الهوية والاندماج والسلم الأهلي. ولعل المتتبع للشأن الفرنسي يعرف جيدا أن القوة السياسية والاجتماعية لليمين المتطرّف تنضج على نار هادئة منذ سنوات، ساعدت على ذلك عواملُ أهمها تنامي العنصرية ومشاعر الكراهية تجاه المهاجرين والأجانب المنحدرين من أصولٍ عربية ومسلمة، وفسادُ الطبقة السياسية التقليدية، والانسدادُ الفكري والسياسي الذي تواجهه الجمهورية الخامسة، بعد أن انحصر التنافس داخل مؤسساتها بين الجمهوريين والاشتراكيين الذين أخفقوا، على حد سواء، في تقديم خطاب جديد أكثر إنصاتا للمتغيرات الحاصلة، إضافة إلى حالة الاستقطاب إزاء قضايا العولمة والهوية والليبرالية الجديدة، وتدخل الدولة في الاقتصاد، والتراجع الملحوظ لدور فرنسا في الساحتين الإقليمية والدولية.
إذا كانت الجاليات والأقليات المختلفة قد تنفسّت الصعداء بعد فوز ماكرون، إلا أن هذه الانتخابات فتحت قوسا جديدا في السياسة الفرنسية، والأوروبية. هناك تحدياتٌ جسيمةٌ على الساسة والنخب وصناع القرار، أبرزها إيجاد إجابة مجتمعية متكاملة على السؤال: ما الذي جعل ثلث الكتلة الناخبة الفرنسية يصوّت لزعيمة الجبهة الوطنية، على الرغم من خطابها المتسم بالعنصرية ومعاداة الآخر؟
عدد الأصوات التي حصلت عليها لوبان جرس إنذار حقيقي للجميع. ولهذا، تبدو الطبقة السياسية الفرنسية والأوروبية في مفترق الطرق الآن، فهي تواجه سرديتين متناقضتين: سرديةُ اليمين المتعصب والمناهض للمهاجرين والأجانب والاتحاد الأوروبي والعولمة، وسرديةُ مجتمعاتٍ تتخبط في مشكلات اقتصادية واجتماعية وهوياتية لا حصر لها، وتتطلع إلى خطابٍ أكثر قدرة على التصدي لهذه المشكلات واستيعابها.