"موعظة" الأسد

"موعظة" الأسد

10 ابريل 2017
+ الخط -
I
ضعوا التوماهوك الأميركية جانباً. ضعوا استعراض الصواريخ التي تشقُّ الفضاء من مُدَمِّرةٍ حربيةٍ لا نراها، دعوا الخواء الذي أظهره التلهّف العربي لمزيدٍ من الضربات، والعجز التام عن فعل شيء في سورية، كما بيَّنه التصفيق الغربي لـ "جرأة" ترامب و"شجاعته"، دعوا الناطق العسكري السوري الذي بدا جلاداً قادماً للتو من مسلخ صيدنايا. دعوا هذا كله جانباً، فهو أقل من أن يعنينا، وأصغر من أن يغطّي مسرح الجريمة، أو يصرف النظر عنه. فلا يبنغي أن تنتهي "موعظة" خان شيخون التي تلاها الأسد، على تلة من الأكفان البيضاء والعيون التي جمَّدها الموت اختناقاً، عند ردود الفعل هذه. فهذا الانتباه المفاجئ، والعابر، لـ "موعظة" الأسد لن يعيد الأنفاس التي اختطفها الكيماوي إلى الوراء. هذا هو المهم. هذه نقطتي التي لن أبرحها، حتى لو عوقب مرتكبها بصواريخ دوَّت بعيداً عن قصره العامر بالأشباح. أريد أن أعود الى نقطة العربدة الكيماوية المعلنة، القادمة من مسرح عبث الجريمة، حيث الوجوه التي لم تنبت فيها شعرة واحدة، والعيون المغمضة، كمن يجدر بالصاعدين إلى السماء. حيث الأفواه مطبقة، والأرقام مربوطة بالأقدام، والأيدي مسبلة كما في صلاة. حيث التواريخ لا تقدّم ولا تؤخر، والدخان يتصاعد من ردمٍ يستحيل رفعه. وحيث الهواءٌ كثيفٌ، ثقيل، ينحدر إلى الأسفل. لا ظلّ. أجسادٌ على أرض بيضاء. لم يبق شيء. طارت الكلمات، تبدَّدت الصرخات وظلت الأجساد بلا ثقلٍ على الأرض. أقمطةٌ نهار الموت الأبيض. أكفانٌ بحجم كفِّ فلاحٍ عائدٍ من حصاد الشعير. ما وراء الطبيعة مقرفصةً تعدُّ على أصابعها الألف أقمطةً بيضاء.. تخطئ في العدِّ، ثم تعود إلى الصفر من جديد.
II
موتٌ أبيضُ، رماديٌّ، معلنٌ. يعربد. لاحظوا كم استخدمنا هذه الكلمة القادمة من ماركيز مباشرةً، في المأساة السورية. مع أننا تجاوزنا الواقعية السحرية والفنتازيا اللتين تلتقطان شذرةً من الواقع وتنفخانها، بهبَّةٍ من ألف ليلة، لخلق صدمة تلقٍّ جماليٍّ تعيد التفكير بالواقع، مرةً أخرى، أو في ما غاب عنا من الواقع نفسه. لقد تجاوزنا ذلك، وبلغنا قاع الواقع، وبتنا في أشدّ طبقاته ظلاماً، بحيث تعجز اللغة عن الوصف والتسمية. كأننا في الأيام الأولى للخلق التي لم تعثر فيها الأشياء والأفعال على أسمائها. حيال العيون المفتوحة على الرعب المطلق، والأعضاء الغضَّة التي لا يمكن ثنيها، ينتهي دور اللغة، وتعود الإشارات والهمهمات إلى العمل. حتى هذه، والحال، لم تشكّل نظاماً يؤدي إلى فهمٍ. كل مرة تثبت الجريمة أنها الأصل، وأنها سابقةٌ على البراقع التي ارتديناها منذ ذلك الدم الأول الذي سال في شقّ (وقيل للمفارقة: دمشق!). الجريمة هي الأصل. هذا ما يجعلنا نفهم عجز اللغة عن تمثيلها، عن ارتدائها والتقدّم إلينا بالدماء التي ترشح منها. فكيف يمكن أن نقول "جرح" ونرى الدم يتدفَّق من الشرايين، هذه الأحرف الثلاثة أنَّى لها أن تجعلنا نشعر بالرصاصة، أو البلطة، وهي تخترق الجسد وتقطعه؟ كيف يمكن أن نقول "قذيفة" فترتجَّ الأرض تحتنا، ثم تتطاير الأشياء والأعضاء على شكل نُتَفٍ وشقفٍ وكتلٍ وغبارٍ وهباء؟ كيف يمكن أن نصرخ "غاز" فتتلوَّى، على الفور، خصورنا، وتنقذف أحشاؤنا، وتطفح أفواهنا بالزبد، ونتخبّط كمن أصابه مسٌّ؟ دلّوني على من يستطيع فعل ذلك، وأنا أترك له كلَّ ثروتي من الكلمات وأتعهد بالعودة، ما بقي لي من أيام، إلى لغة الإشارة، أو الهمهمة، والهيام على وجهي في الصحراء.
E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن