نحو بناء مدوَّنة أخلاقية جديدة

نحو بناء مدوَّنة أخلاقية جديدة

06 ابريل 2017

(عمران يونس)

+ الخط -
أصبح مؤكدا اليوم أن الطفرة التكنولوجية التي عرفتها المجتمعات الإنسانية، في نهاية القرن الماضي ومطالع القرن الجديد، وَلَّدَت إشكالاتٍ كثيرة في مختلف مظاهر الحياة، الأمر الذي يتطلب إطلاق حوار في موضوع آثار التحوُّلات المذكورة، في مجال الأخلاق والفكر الأخلاقي داخل مجتمعاتنا.
يدفعنا إيقاع التحوُّلات المعرفية والتقنية الجارفة في عالمنا، أكثر من أي وقت مضى، إلى مواجهة النتائج التي قد تترتَّب عنها في مختلف جوانب حياتنا. ونحن نتصوَّر أن اهتمام المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بهذا الموضوع في مؤتمره السنوي السادس، في الدوحة (18-20 مارس/ آذار 2017)، يندرج ضمن هذا الأفق. إنه يتجه إلى مساءلة منظومة القيم التي ركَّب العرب في تاريخهم، في علاقاتها بمستجدّات عالم يؤطر حاضرنا، ويترك آثاره في مختلف أوجه مجتمعنا.
اتجهت كثير من أوراق المؤتمر (15 من 28 ورقة، وهو مجموع ما قُدِّم في موضوع سؤال الأخلاق)، لفحص مبادئ وقواعد أخلاقية موروثة عديدة ومراجعتها، في ضوء أسئلة الأخلاق، كما تنشأ اليوم في عالم سمته المركزية التغيُّر، عالم تساهم فتوحاته العلمية والتقنية في توليد ظواهر جديدة وبنائها، الأمر الذي يوسّع المسافات بين قِيم الماضي وأخلاق الحاضر والمستقبل.
اللافت أن سؤال الأخلاق في المؤتمر اتجه بالأساس إلى العناية بالموروث الإسلامي في تَنَوُّعِه وتَعَدُّد مرجعياته، وكذا في تناقضاته ومفارقاته المرتبطة بالتاريخ وتحوُّلات المعرفة وتَعَدُّد 
المرجعيات والروافد. حيث قدمت أوراق عديدة اهتم أصحابها بقضايا الأخلاق في الفلسفة وعلم الكلام والفقه والتصوف، واهتم آخرون ببعض المفاهيم الأخلاقية القرآنية، من قَبِيل التقوى والرحمة. صحيحٌ أنه قدمت أوراق أخرى، اتجه أصحابها إلى التفكير في الأخلاق ومجتمع المعرفة والأخلاق وأسئلة عصرنا، حيث قُدِّمت أوراقٌ في مجالي الجينيوم والبيوتيقا والمعرفة الطبية، ما ساهم في التقليص من عملية الاستغراق في مقاربة القضايا التراثية وحْدَها، ووضعت سؤال الأخلاق في قلب أسئلة الحاضر العربي والكوني، وهي أسئلة تخصنا في عالم يزداد تعولماً وتتقاطع إشكالاته بصورةٍ تدعو إلى التفكير الجماعي في مآزقه ومآلاته.
لا تجد القضايا والإشكالات التي حملتها رياح التحوّل الجارية في مدونات القيم القديمة ما يُسْعِف ببناء تصوُّرات مساعدة في عمليات مواجهتها، وإيجاد الحلول الملائمة لها. ذلك أننا نعيش اليوم ضمن سياقاتٍ تاريخية، تؤطرها مكاسب معرفية وتاريخية جديدة، الأمر الذي يدعو إلى لزوم بناء مدوَّناتٍ أخلاقيةٍ جديدة، تُتَمِّمُ وتُعيد بناء مشروع الحداثة وقِيَمها. فلم يعد ممكناً، في ضوء الحاضر وتحوُّلاته وأسئلته، أن نظل أوفياء لقيم تولَّدت في جدل داخل تاريخنا، ولم تعد اليوم في كثير من مبادئها تناسب ما يجري في عالمنا.
سمحت أوراق كثيرة قدمت في المؤتمر بإدراك حدود الأخلاق ومحدوديتها في موروثنا، كما سمحت أوراق أخرى بقياس المسافة التي تفصل القيم الأخلاقية الموروثة عن إشكالات عالمنا الجديد. وعندما نفكر، على سبيل المثال، في أخلاق النظام المعلوماتي الجديد، نجد أن مفاهيم الحرية والمساواة والأمن والثقة، وهي المفاهيم التي استوعبت في الماضي دلالاتٍ محددة، تستدعي اليوم بناء مضامين جديدة، إنها تقتضي إنجاز محاولاتٍ في إعادة بنائها، في ضوء مستلزمات التحوُّل الجاري.
ينبغي، إذاً، أن يتجه الجهد الجماعي نحو بلورة مدونة أخلاقية، مستوعبة روح المدونات
 القديمة، ومستوعبة، قبل ذلك وبعده، للمتغيرات الجديدة التي فجرتها ثورة غير مسبوقة في ميدان العلوم والتقنيات، ثورة ترتَّب عنها آثار محدَّدة، في فضاءات المعرفة وشبكات التواصل المعاصر، حيث نشأ جيل جديد من الإشكالات والمآزق والجرائم. وفي هذا الإطار، نُشَدِّدُ على أن التأطير الأخلاقي الجديد الذي نتطلَّع إليه يقوّي في نظرنا الأمل في بناء عالم إنساني أكثر توازناً، وخصوصا عندما تحتل فضيلتا التضامن والتقاسم، المسنودتان بالتشارك والتواصل، الأرضية الداعمة للآمال التي نُصَوِّب النظر إليها. فلا أحد يجادل اليوم في حاجة عصرنا إلى منظومة جديدة من القيم الأخلاقية، القادرة على حماية مجتمعاتنا، من أشكال التوتر والصراع المختلفة، التي تتخذ أشكالاً جديدة من العنف، في مختلف المجتمعات البشرية، ولعل هذا الأمر بالذات يدعونا، وبشكل مستعجل، إلى لزوم الحثِّ على أن يكون للأخلاق وللتسامي الخلقي مكانة مهمة في حياتنا.
تُمَكِّن التحوُّلات المتسارعة في ميدان العلوم والتقنيات جملةً من المكاسب الجديدة، وهي تصنع، في الآن نفسه، عوائق وإشكالات تستدعي حواراً يُفضي إلى تركيب مدونةٍ أخلاقية، مكافئة لصور الخلل الجديدة، يكون بإمكانها أن تساعد في عملية بناء التوازنات القِيَمِيَّة المحاصِرة للنزوعات النفسية الفردية والجماعية في أبعادها المدمرة، الأمر الذي نتصوَّر أنه يساهم في صيانةِ التماسك النفسي والاجتماعي داخل الحياة البشرية.
C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".