حاشية بشأن التلفزيون في "المؤشر العربي"

حاشية بشأن التلفزيون في "المؤشر العربي"

04 ابريل 2017
+ الخط -
لا يزال المواطن العربي عربيَّ القلب واللسان، ومِن المؤشِّرات على ذلك، رقميًّا، ما أظهره المؤشِّرُ العربي لعام 2016 الذي أنجزه وأصدره أخيرا المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أنّ نسبة 77% من الرأي العام العربي ترى أنَّ شعوب المنطقة تُشكِّل أمةً واحدة، وإِنْ تمايزت الشعوبُ عن بعضها بعضا وكذا شعوب المنطقة، وذلك مع التطوُّر النوعي، والواسع النطاق على وسائل الإعلام، وطغيان الإنترنت، وعلى الرغم من التسطيح والتسريع الذي يَختزِل ويُسطِّح، في عصر استبداد "الليبرالية الجديدة"، كما يُفهَم من كلام روبرت ماكشيسني في مقدمة كتاب "الليبرالية الجديدة والنظام العولمي"، فالليبرالية الجديدة تضطهد القوى المناهضة للسوق، وأضحت تعمل ليس كنظام اقتصادي فحسب، بل كنظام سياسي وثقافي أيضا، حيث تُبقي الديمقراطية والانتخابات الشكلية، ولكن بعد إقصاء السكان عن المعلومات والمشاركة والمنتديات العامة اللازمة لمشاركةٍ ذات معنى وقيمة في صنع القرار. وحيث "السوق فوق الجميع" في هذا العصر، وعلى الرغم مما سبق، لا يزال الإعلامُ المليء قادرا على استقطاب الناس، فيما النتائج المتوقَّعة، أو المطلوبة، والواقعة، إلى حدٍّ ما، مجتمعاتٌ مفتَّتة من أشخاص لا منتمين يشعرون بالإحباط والعجز الاجتماعي. ولا تزال للشعب العربي، أو لكثرةٍ منه قضايا مركزية تشغل تفكيره وهمّه ووجدانه، كمثل قضية فلسطين، مثلا، ولا تزال أحوال البلاد العربية المنكوبة والمُجهَضة غيرَ مطرودةٍ من هموم المواطن العربي، تماما.
ولا تزال القنوات التلفزيونية تحظى بمتابعة كبرى بالقياس إلى الإنترنت، وغيره، بحسب "المؤشر العربي"، إذ أظهر أنَّ أكثريةً المواطنين في المنطقة العربية (68%) تعتمد على القنوات التلفزيونية في متابعة الأخبار السياسية، ثم على شبكة الإنترنت (13%)، فلكي نعمل على الحدّ من استبداد الصورة في التلفزيون، وسطْوتها، يلزم أن نستثير عمقها الثقافي، ونحفّز عمقنا نحن، وذلك كي؛ على الأقل، تتفاعلَ (ولا نُستَلب تماما) أنساقُنا الثقافية، كما نَفِيد من عبد الله الغذامي في كتابه "الثقافة التلفزيوينة".

فنحن هنا ندعو إلى تعزيز "الأدب التلفزيوني"، بتوسيع نطاق الأدب؛ ليشمل التنوُّعات الثقافية المعاصرة والموازية، والمُحرِّكة، أحيانا، أو على الأقل، الكاشفة، أو المتفاعلة، مع الأحداث السطحية، على أهميَّتها، وعلى الأخبار الصاخبة، على راهنيِّتها، ومَسِيس الحاجة إليها، إنسانيا، ومعيشيا. وتبقى هذه "الأدبية التلفزيونية" مطلوبةً، بالطبع، مضامينَ، وأشكالا، في تناول تلك المواد الإخبارية، وسواها.
وتفتقر المادة الإعلامية إلى الأدب، مضمونا، وإليه، أسلوبا إذا صحّ، ولو شكليًّا، الفصلُ بين المضمون والأسلوب، ولكننا نحتاج إلى الإقرار، أولا، بحاجة اللغة الإعلامية إلى قدر من "الأدبيّة"، وأنَّ هذا المقدار يجب أن ينضبط بما لا يُعطِّل، أو يَنتقص من وظيفتها الإعلامية، وحينئذ كذلك لن يُخشى على الوظيفة الإعلامية فقط، بل إنه لن يخشى، كذلك، على الأدب أن تتقمصه اللغةُ الإعلامية، أو تحجبه. ولذلك تمسُّ الحاجة إلى لغة إعلامية متأدِّبة مُترقيّة، ومُرْتقية بالذوق اللغوي؛ نظرا لهذا الشيوع والتأثير الواسع النطاق.
وقد يكون الخطاب الإعلامي أقرب إلى بعض السمات المهمة في البلاغة القديمة، وهي الإيضاح والإقناع، متباعدا عن عدد من السِّمات، كالاحتمالية والتغريب والغموض، وتقصُّد التفاوت في الخطاب؛ وصولا إلى النُّخبويِّ منه، كما يتباعد الأدبُ والشعر عن لغة الإعلام تباعدا واسعا في نطاق كلٍّ منهما، فنطاق الأول هو الخيال، ولا حرج عليه، مهما أوْغَل في الخيال، ولكن مجال الثاني هو الواقع، مع درجاتٍ محتملةٍ من الخيال أحيانا؛ ذلك أن المواد الإعلامية متنوعة، من الخبر إلى التقرير إلى القصة الصحافية، فما لا يتقبَّله الخبر قد يتقبّله التقرير، أو القصة الصحافية.
ويلحظ متابع قناة الجزيرة، مثلا، التغيُّر، أو لِنَقُلْ، الانعطافةَ اللافتة في نوعية البرامج، نحو رفع جرعة الثقافة والأدب، وتهدئة النبرة، إلى مزيدٍ من الألفة والنمط الحيوي الطبيعي، بقدر الإمكان، فلعل الأحداث المتشابهة، من دون انتقالات جوهرية، تُنهِك وتَستَهلِك، إذا لم تكن مشفوعة، ومؤسَّسة، أو مردوفةً بخطاب إعلامي أكثر عمقا، نحو إنسانية الإنسان وجمالياته المأمولة، وقد يكون حجم الشرّ والوحشية التي فضحتْها الصراعاتُ، وأيقظتْها، دافعا آخر إلى هذه المواد الأكثر تعقُّلا وأخلاقية.
ونلحظ ذلك التنويع المتصل بالثقافيّ، في برامج من قبيل "خارج النص"، وهو يستهدف "كتّابًا وفنانين غرَّدوا خارج السرب، وأبدعوا خارج النص المألوف، فشكَّلت إنتاجاتُهم الحدث، وأثارت الجدل حَدّ منع كثير منها من التداول والنشر"، إلى "فوق السلطة"، وهو برنامج "يعالج أحداث الأسبوع السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية العامة، بأسلوب انتقادي وهجائيٍّ ساخر على طريقة الكوميديا السوداء...". ونلحظ عَوْدًا قويًّا إلى الصحافة الاستقصائية، كما في برنامج "ما خفي أعظم"، وهو المهم فيما يكشف عنه، كما الممتع والجاذب في شكله الذي يستلهم من روح السرد والرواية والقَصّ، مع اعتماده على التحقيق الميداني.
وقد يكون التحدِّي هنا في هذا الجمع بين المضمون المفيد والمضيف للمشاهد وبين الحيوية والمواكبة الراهنة للأزمات المختلفة، من دون الاستلاب لها.
وكذلك يشترك تلفزيونُ العربي في هذا المنحى الذي يُعلي من القيمة الثقافية، كما في برنامج "عصير الكتب"، وهو يفتح نافذة على عالم الكتب والمؤلّفين والقضايا الفكرية المعاصرة، وبرنامج "في رواية أخرى" غير البعيد، جوهريا، عن فنِّ السيرة الذاتية، و"ديوان العرب"، وهو رحلة داخليّة في حياة شاعر، و"صندوق الدنيا" الذي يغطّي الفعاليات الثقافية والفنية التي تنظَّم على نطاق العالم العربي والعالم"، وغيرها.
ويمثل "ضفة ثالثة" في "العربي الجديد" نافذةً ضرورية، وجسرا ممكنا إلى محاولة الانعتاق "من الاستقطابات الضيقة المؤدلجة بشدّة"، وهو "منبر ثقافي شامل وجامع، يراهن على الثقافة باعتبارها أرضًا للسؤال والفكرة والقراءة والنص والصورة، وفي الوقت نفسه، على تعميق المحتوى الثقافي العربي".

وكان برنامج "خليك بالبيت" الذي كان يُبَثُّ على قناة المستقبل اللبنانية، قبل أن يتوقف، من البرامج الحوارية المتميِّزة، بحواره الهادئ، وضيوفه المنتخبين، كان كأنه نافذة شعرية، مع ما ينطوي عليه من إنارة على مبدعين من شتَّى الأشكال، ومن مختلف الأقطار العربية، وباتجاهات فنية وأدبية متنوعة.
ومع ذلك، تبقى المراهنة على دور الأدب في التقريب والتوعية، ورفع منسوب الإنسانية، ويبقى التعويل عليه في التأثير الأعمق والأبعد مدىً؛ للوقاية من الوصول إلى عقم التواصل، تبقى هذه المراهنة ليست مضمونة؛ كونه بالإمكان، وللأسف، أن يجتمع في آحاد الناس، وحتى في آحاد الفنانين والشعراء، الجمالُ مُنتَجا ومتذوَّقا، والقبحُ موقفا ووممارسة. لكن، يبقى التعلُّق بخطاب أكثر عقلانية وأنسنة أمرا لا بد منه، ولا يمكن أن يكون مخفقا بالكلية، وعلى طول.
وللأسف الشديد، لا نزال نسمع، أو نستنتج مما يُعرَض، أنّ مسؤولين عن تخطيط البرامج في قنوات عربية، لا يتوفرون على الحدود الدنيا من متطلبات هذه المهمة الثقيلة.