التونسيون وتراجع قيمة الدينار

التونسيون وتراجع قيمة الدينار

30 ابريل 2017
+ الخط -
يتابع التونسيون بقلق بالغ تراجع قيمة الدينار، مقارنة بالعملات الأجنبية الأخرى، وخصوصا اليورو والدولار، وهو تراجع غير مسبوق، وسط اتهامات متبادلة وتصفية حسابات، أصبحتا سمة ثابتة في تناول أزمات البلاد ونوائبها التي ما أن نتوهم تجاوز إحداها حتى تحل أخرى أكثر بأسا وشدة. وربما تكون تصريحات وزيرة المالية، لمياء الزريبي، عن توقعها مزيداً من انخفاض سعر الدينار هي التي ألهمت ردود الأفعال تلك، فأحدثت هذه التصريحات مطالبة بإقالة صاحبتها، فيما ذهب آخرون، في تسرّعٍ، إلى المطالبة بإقالة الحكومة بأكملها. 

كما شهدت تونس، في السياق نفسه، مبادرات مواطنية ومدنية، تهدف إلى وضع حد لهذا التدحرج المخيف لقيمة الدينار، من خلال مبادرات تدعو إلى استهلاك البضائع التونسية، والعزوف عن تناول البضائع الأجنبية، خصوصاً أن جلها من الكماليات، أو هي تنافس بضائع محلية، لا تقل عنها جودةً، وقد ركّزت هذه الحملة بشكل واضح على بلدانٍ بعينها، مثل الصين وتركيا التي اختل فيها الميزان التجاري بشكل ملموس. وقد تكفلت مجموعات أخرى، من أبرزها "التونسي"، بإطلاق حملة أخرى، تحرّض على "رفع الدينار التونسي" بعد تراجعه المحرج، باستعمال مواقع التواصل الاجتماعي، داعية في الإطار نفسه إلى مقاطعة المواد الكمالية المستوردة، واعتبارها من أركان المواطنة.
كما ساهمت حملات نشيطة منخرطة في الجهد نفسه إلى تعبئة الرأي العام، من أجل ترشيد الاستهلاك، في ظل قناعات متزايدة بأن الدولة غير متحمسة لهذه الإجراءات أصلا، نظرا إلى التزاماتها التعاقدية الدولية مع بلدان أخرى، خصوصاً تحت الضغوط الخارجية، فهي "أعجز" عن اتخاذ موقف صارم من أجل وضع حد لهذا التوريد الذي أغرق البلاد بمواد كمالية، 
فالتبادل التجاري بين تونس، وبلدان أخرى، غير منصفٍ في سياق اقتصادي عسير، تراجعت فيه موارد الدولة ومنتوجاتها، وتوقفت حركة التصدير على إثر الشلل الذي أصاب إنتاج الفوسفات، ناهيك عن الأزمات الحادة التي نتجت عن عزوف الاستثمار وارتفاع المديونية، وتقلص تحويلات المواطنين في الخارج، علاوة على تراجع السياحة. كما شنت منظمات مهنية، سواء منضوية تحت الاتحاد العام التونسي للشغل أو منظمة الأعراف، حملة مساندة للدينار التونسي، وهي مواقف تأتي تعبيرا عن تبرّم مقاولين محليين عديدين، ومؤسسات تونسية صغرى ومتوسطة، عانت من منافسة غير متكافئة، أضرّت بمصالحها، حيث أغلق بعضها، وتم تسريح بعض العاملين، حتى تقدر على التأقلم من جديد. ولعلنا نذكر، في هذا الصدد، مئات شركات النسيج التي أفلست وأغلقت أبوابها، فالجامعة الوطنية للبناء المنضوية تحت اتحاد الصناعة والتجارة، مثلا، تؤكد، في بياناتها، أن التوريد العشوائي لمواد البناء يهدّد مباشرة 450 ألف موطن شغل.
بعيدا عن الأسباب المعقدة التي حفّت بتراجع قيمة الدينار، فإن الوضعية مزمنة، غير أن أعراضها بدأت تتضاعف منذ سنة 2011 تحديدا، وقد أكد صندوق النقد الدولي، في تقاريره المتعاقبة، هذا الأمر، مقترحا سلةً من الإصلاحات التي رأى فيها بعضهم تعويما للدينار وتحريرا له، وفضّلوا مواصلة سياسة حمائية، تجيز للدولة التحكّم فيها، من خلال آليّة الضخ المعروفة، خصوصا أن السياسة النقدية هي من مشمولات البنك المركزي الذي يحظى باستقلاليةٍ كبيرة تجاه السلطة التنفيذية.
غير أن حالة عدم الاستقرار السياسي الذي عرفته البلاد، وتعاقب الحكومات السبع المحاصرة 
بالاحتجاجات الاجتماعية والمطلبية القصوى، جعلا أصحاب القرار عاجزين عن اتخاذ إجراءاتٍ لفائدة قطاع الصرف، والكل يعلم أن الدينار التونسي لن يقدر على استرجاع عافيته، من دون إصلاحات اقتصادية جوهرية، ترفع نسب النمو تحديدا وتقلص المديونية والعجز التجاري.
لا يمثل الدينار لدى التونسيين مجرّد عملة تمنحهم قيمة تبادلية، يشترون مقابلها بضائع وخدمات، بل يمثل، لدى شرائح واسعة منهم، رمزا وطنيا خالصا، فهم لا ينسون أنه كان أحد الرموز الوطنية التي ساهمت في بناء الدولة التونسية، ما أن استكملوا استقلالهم عن فرنسا، وأعلنوا جمهوريتهم، حتى أعلنوا رسمياً اعتماد الدينار التونسي عملة وطنية، وألغوا الفرنك الفرنسي، فاختيار الدينار كان منغرسا في أصل الاستقلال والتجذّر في الثقافة العربية.
أبدى التونسيون، خصوصا مختلف الفئات الاجتماعية، الشعبية منها، اهتماما بالغا بوضعية عملتهم، وهذا جديد، ذلك أن للمواطنة أبعادا لا تقل أهمية وخطورة عن المواطنة السياسية. وإذا كان التحول الديموقراطي قد أتاح مساحاتٍ شاسعة من الحقوق والواجبات السياسية، فإن الإخفاقات ظلت، في المجال الاقتصادي، بارزة للعيان. ومع ذلك، يظهر حرصهم المتزايد على حماية عملتهم في سياق يظهر، بشكل لافت، تدهور مقدرتهم الشرائية، وانجراف عديدين منهم نحو عتبات الفقر، يمنحنا مساحاتٍ واسعةً من الأمل في ألا ينهار هذا التحول الديموقراطي الذي ظل ملهما، حتى في حال تعثّره، ما دامت تلك الفئات ما زالت مشدودة لاستكمال مشوار هذا الانتقال الصعب.
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.