روايتان.. وصوفيّان أندلسيّان

روايتان.. وصوفيّان أندلسيّان

28 ابريل 2017
+ الخط -
ليس مهما إن كان محمد حسن علوان (38 عاما)، قد طالع رواية سالم حمّيش (68 عاما) "هذا الأندلسي" (دار الآداب، 2007)، قبل أن يكتب روايته اللافتة، "موت صغير" (دار الساقي، 2016)، والتي ظفرت بالجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر)، الثلاثاء الماضي، فالأهم أنه بنى عملا روائيا امتلأ بأسباب الجاذبيّة والأناقة، تماما كما فعل حمّيش في عمله ذاك. ولكن، ثمّة قرابةٌ ظاهرةٌ، وقويةٌ، بين ما صنع الاثنان، الروائيان السعودي والمغربي، ليس فقط في أن رواية كلٍّ منهما تفوق الخمسمائة صفحة، وإنما لأن اثنتيهما تذهبان إلى التاريخ المتشابه، وتنبنيان على سيرتي صوفيّين، أندلسيّين، مرتحليْن، تقاطعا زمنيا إلى حدٍّ ما، وكلتاهما تقومان على رواية البطل فيها سيرتَه وأسفاره ودواخله بضمير المتكلم، بل هو الراوي الوحيد، كما أن في الروايتين حضوراً لمخطوطٍ لكل منهما.

الحديث هنا عن ابن عربي (554- 638 هجرية) في رواية محمد حسن علوان، وعن ابن سبعين (614 – 699 هجرية) في رواية سالم حمّيش. وكذا عن لغةٍ عاليةٍ، وذات حلاوةٍ وطلاوةٍ ظاهرتيْن، ينطق بهما هذان الراويان، وهي لغةٌ أنشأها، بالطبع، الروائيان القديران، على لساني بطليْهما. وإنْ مقاديرُ التأنّق (التراثي إلى حدّ ما) لدى حمّيش أكثر منها لدى علوان الذي آثر تخفّفا من هذا الأمر، فلم تأت لغتُه مثقلةً بما أراده حمّيش، فصار ابن عربي على شيءٍ من النثرية المستعملة، في مواضع غير قليلةٍ في الرواية، وإن تبدّت إشراقاتٌ لغويةٌ شديدةُ الإيحاء والمتانة، وبالغةُ الإبداع، وتبعث على إعجابٍ خاص بالموهبة التي يقيم عليها الفائز بجائزة "بوكر" أخيرا.
والزّعم، هنا، أن الإسهام الذي يضيفه علوان وقبله حمّيش، في عمليهما هذيْن، على متن الرواية العربية الحديثة التي انجذبت إلى التاريخ وغوايته، جديدٌ ومثير، لا سيما وأنه لا يأتي مسلكه هذا، أي سرد شخصيةٍ من التاريخ حكيَها عن نفسها، لمجرّد اختبار قدرةٍ على هذا الفعل، أو لإنجاز نصٍّ يتماسّ مع الماضي فحسب، بل ثمّة مرسلاتٌ في الروايتين تحتكُّ بالراهن العربي. وهنا، في الوسع أن يُقال إن الاختلاف بين شخصيتي ابن عربي وابن سبعين، وهما صوفيّان وفيلسوفان وأندلسيّان، معلومٌ ربما بشأن صلة كل منهما بالسلطة، وإذا ما عوين أن الأخير بدا في عمل سالم حميش مشتبكا مع السلطة، وعلى صراعٍ معها، وكان رافضا أن يكون في حاشية أي سلطان أو فقيه، وقد ضويق عليه، وطورد، ومات غريبا ومتخفيّا في مكة، فإن ابن عربي لم يكن على هذه المقادير من هذا، لكنه، وإنْ جالس الخلفاء والملوك، واقترب منهم، خالف بعضهم، وسُجن، وحورب. وقد قال، على ما أورد محمد حسن علوان على لسانه، وهو في بغداد، إنه دخلها مبعثرا فجمعته، غريبا فآوته، وإنه كان على يقين أن نهايته معها لن تكون كبقية البلاد الأخرى التي طردته في الأندلس والمغرب ومكّة والشام ومصر، وقال الموحدون لا دروس له، والأيوبيون أودعوه السجن، والحلبيون استاؤوا من ديوانه، ومكة أقفلت أبوابها أمام قلبه "في منتصف العشق".
ليست الروايتان سيرتيْن تاريخيتين طبعا، ولا هما معنيتان بتسجيلٍ توثيقيٍّ عن ابن عربي وابن سبعين، غير أنهما أمينتان في تتالي ارتحالات الشيخيْن، والمواقع التي أقاما فيها، وقد عمد سالم حمّيش ومحمد حسن علوان إلى مبنىً كلاسيكي خطّي لمسار الحكي المتتابع، ساهمت المقادير الوازنة من التخييل الوفير في عمليهما، البديعيْن حقا، في أن يتلقاهما قارئهما بغبطةٍ وبهجة. وإذا كانت نقاط الالتقاء (والقرابة) بينهما غير قليلة، كما تطمح هذه السطور أن توضح، فإن اختيار صاحب "موت صغير" (الحب موتٌ صغيرٌ في عرف ابن عربي) أن ينشئ مساراً للمخطوط، ينقله من مدينةٍ إلى أخرى، ومن أزمنةٍ إلى أخرى، ليصل إلى يدي لاجئ سوري في بيروت العام 2012، وكان قد مرّ بحماة المكلومة 1982، تعلةً لتأكيد صلةٍ قائمةٍ بين الماضي والحاضر. وتأتي الرواية، في مختتمها، على تسليم الملك الكامل القدس للفرنجة، وتوجّهه إلى دمشق لينزعها من ابن أخيه، وذلك قبل أن تودّع قراءتك الرواية بحكي ابن عربي عن دفنه لمّا مات، وكانت قد بدأت بحكيه عن ولادته لمّا دلقته أمه إلى الدنيا.. تقرأ الحكاية كلها، ويُخاتلك، في الأثناء، طيف ابن سبعين، لمّا كتبه سالم حمّيش.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.