حاملو الصكوك

حاملو الصكوك

28 ابريل 2017
+ الخط -
حاملو الصكوك يهيمنون، تمكيناً لمصالحهم، على توصيف الناس، فحينما ترى جملة من الاتهامات لإعلام إفك نظام فاشي بوليسي، معروف أنه يلفق الاتهامات، ويلقي التهم على عواهنها، في سياقات خدمة المستبد وترويج طغيانه، وتحويل الأنظار عن جرائمه، في إطار تلك الاتهامات القبيحة وجرائم النظام الخطيرة، نحن في الحقيقة أمام مهزلةٍ متكاملة الأركان، وخطاب إعلامي مملوء بالهجاء، في محاولةٍ لتبرير كل ما من شأنه أن يمكّن للمستبد سلطانه، وأن يمدّ في طغيانه.
بملاحظة هذا الخطاب، نجد خطاب التخوين هو أكبر الخطابات التي تكيل الاتهامات لكل من يعارض سياسات المنقلب المستبد، والنظام الفاشي العسكري، والمنظومة الأمنية البوليسية، أقل الأوصاف، أن هؤلاء ليسوا إلا "خونة"، يخونون الدولة، ويريدون خرابها، ويعملون على هدم مؤسساتها. أما هؤلاء الذين يبدون الولاء والانتماء فهم المطبلون والمزمرون والصفاقة والوفاقة، يقومون بكل ما من شأنه الدعاية لذلك النظام برواياتٍ كاذبةٍ، وبترويج أوهام زائفة، مثل أن جواز المرور لهؤلاء أن يتلفظوا بألفاظ مثل "تحيا مصر" و"لنتحمل من أجل مصر"، وكل هذه الألفاظ التي تغطي على كثير من الجرائم وقبح الأفعال. بين الخيانة وصكوك الولاء، يقوم كل هؤلاء بتخويف الناس ضمن مقولات خطيرة، في حقيقة الأمر، تؤدي إلى تفريق المجتمع، بحسب ما يؤديه هؤلاء من عملٍ في مصلحة المستبد، وتمكينه على كرسي سلطانه.
وكذلك، فإن هؤلاء الذين يروّعون الناس ويطاردونهم، بل ويقتلونهم يوصفون بأنهم حماة للوطن، وأن الآخرين، في ظل اتهام عام ومٌعمّى، هم أهل الشر الذين يجب قتلهم ومطاردتهم، لأنهم يريدون شرّاً بالوطن. ومن هنا، قامت الأجهزة الأمنية بتضخيم الاتهامات، وتدبيج القضايا، ساعدهم في ذلك جهاز النيابة، وبعض من قضاة، وبدا العدل متروكاً في هذا المجتمع، بين هذه الدعاوى وفئةٍ أصبح أفرادها يحكمون ويكرّسون كل مسارات الكراهية التي تجعل، في النهاية، تصنيفاً خطيراً، يصل إلى وصف هؤلاء بأنهم شعب، وغيرهم شعب آخر. ومرة أخرى، يحمل هؤلاء الصكوك، ويوزّعون العطايا لبطانتهم وسدنتهم، ويلفقون التهم، ويقرّرون العقوبات لمن عارضهم أو قاومهم، هؤلاء "الدولتية" يحملون صكوك حماية الدولة، وغيرهم هم المستهدفون لها، والعاملون على إسقاطها.
وصنف ثالث من حاملي هذه الصكوك يتحدثون فيها عن المواطن الصالح، على حسب زعمهم وزيف دعواهم وادعاءاتهم، فيجعلون هذا الوصف بالصلاح إنما يرتبط بسلوك الخنوع
والخضوع، صاحبه لا يعقّب على ظلم، ولا يتأوه من غرمٍ يقع عليه في كل وقت، وفي كل حين. مواطن الإذعان بالنسبة لهؤلاء هو المواطن الصالح الذي يمارس تمارين الإذعان الصباحية، ويتحكّم فيه النظام، فيسير في ركبه وركابه، ويتحول إلى ترسٍ في ماكينة العبودية التي يديرها هذا النظام.
وهذا الذي يتلهى بكل ما يخرجه النظام من أخبار غريبة في إعلام امتلأ بمحاولة تسطيح الرأي العام، وإلهاء الأفهام وترويج الأوهام. وعلى المواطن أن يستجيب لكل ذلك، استجابته عنوان صلاحه وصلاحيته في مواطنيته، أما ذلك الذي يقول "لا" فإنه المواطن المارق، بل هو أبعد من ذلك، يمكن أن تنزع عنه مواطنيته، ويعاقب على جنسيته، وصارت الأمور التي تتعلق بالمواطنة حالةً من التحكّم والهيمنة، وحالة من السيطرة والإخضاع. ولا بأس من مواطن يستجيب للترويع والتفزيع، فيعلن خضوعه، ويمرّر حاله. وهنا فقط يطرح عليه صك المواطنة، لأنه يسير في الركب، وفي الركاب.
وكذلك هؤلاء الذين يملكون الصكوك التي تتعلق بوصف حال الإنسانية، فإننا نرى صكاً يتعلق بحكّام يعتبرون أنفسهم آلهة أو أنصاف آلهة، لا يخطئون ولا يحاسبون، لا يُسألون عمّا يفعلون وهم يَسألون، إنه صك السادة من الحكام الذين يتحكّمون في عموم الناس ببطشهم وطغيانهم، فيجعلون من بلطجتهم بأشكال كثيرة من معاني الاستبداد، هي معنى القوة الباطشة والسيادة الظالمة. هؤلاء في عرفهم هم رجال الدولة الذين يتحكّمون ويحكمون، وهم في حقيقة أمرهم أشبه بالعصابة. إنما الشعوب فليس لها إلا الإذعان، فإن طالبت بالتغيير، فذلك وعي زائف، وإن كان لها من المطالب وصفوها بأنها فئوية.
وقاموا بكل عمل يؤكد على تصنيف الناس ما بين صكوك السيادة وصكوك العبودية، ولعل الشاعر أحمد مطر أصاب كبد الحقيقة، في بعض شعره، حينما أكد أن "في بلادنا مواطن أو سلطان.. ليس لدينا إنسان". وكان يعني، ضمن ما يعني، أن السلطان الذي تأله، واعتبر نفسه لا يخطئ، لم يعد إنساناً، وأن المواطن عبد مملوك، وكأنه عقار يورّث من جملة ما يورث من مقتضيات معنى العبودية وتوابعها، والأمر، على ما يؤكد الشاعر، أن الرابطة مطالبةٌ بالإصلاح والتغيير، هو أن ينزل السلطان من عليائه، فيكون إنساناً، وأن يرتفع المواطن من وهدته، ومن عبوديته، فيصير إنساناً، فيتحكم في الإثنين معنى الكرامة والمسؤولية والحساب والمساءلة.
هذه صكوك متعدّدة، يحاول هؤلاء أن يجعلوا من الفاسد، وبحكم نفوذه وتنفذّه، رجل أعمال يتحرّك بفساده، فيتحالف مع أهل السلطة والقوة والبطش، ويتحول كل هؤلاء إلى شبكةٍ من الفساد تتبادل المصالح، وتحمي المنافع، وتؤصل لمعنى العصابة التي تهيمن على كل شيء، وتمتلك كل شيء، لكن هذه العصابة والفسدة يسمونهما في عرف هؤلاء "طبقة الحكم وطبقة المال"، ويدخل عليهم من يزيّن لسلطانهم، ويمالئ طغيانهم، ويكون غطاء يشكل سياسات مستمرة، وحالة مستقرة من غسيل المخ الجماعي، من إعلام إفكٍ، يقوم بكل ما من شأنه من السيطرة والهيمنة على عقول الناس من كل طريق، لكنهم، في حقيقة الأمر، يأخذون صكّ الحكام، وهم في الواقع لصوصٌ متغلبة، يفسدون في الأرض، ويمكّنون لمصالحهم الآنية والأنانية. أما من دونهم، فهم من المحكومين عليهم أن يتحملوا ويكونوا من الصابرين، فصكّ الصبر في عرفهم دليل إذعانٍ يروجه المستبد، في محاولةٍ لتبرير فساده، ومطالبته الآخرين بالتحمل والصبر، كعلامة رضائه.
وهؤلاء من علماء الدين، الذين أضلهم الله على علم، يحملون من الصكوك، صكوك الأوصاف، فهؤلاء خوارج، وهؤلاء مستنيرون، وكل الأمور تسير في صك صفات لا تنطبق، في واقع
الأمر، إلا على كل من عارض وكشف ستر النظام المستبد، وقام على فضحه، ويقوم علماء السلطان بتبرير أقبح الأفعال، وتمرير أسوأ الأحكام، ما بال هؤلاء يؤلهون الحكام، ويشترون بدين الله الثمن القليل، ويفترون على الدين من أجل خدمة طغيان السلطان وسلطان الطغيان.
يشكل هؤلاء جميعاً حالة من حاملي الصكوك، وهم معروفون في منظومة المستبد، إلا أن أخطر ما يتعلق بالمجتمع أن تنتقل فكرة الصكوك إلى أهل من يعارضون المستبد، فيتفرّقون ويتشرذمون، وتبدو الأوصاف موزعةً، لا تقل عن درجات التخوين، ولا عن أوصاف الاتهام المهين، فتجد هؤلاء الذين من المفترض أن يكونوا الصف الواحد، فإذا بهم يتنابذون ويتسابون ويتبادلون الهجاء، وبما يوحي أن الاختلاف ليس إلا طريقاً للخلاف والتنازع والفرقة وذهاب الريح والفاعلية، هؤلاء جميعاً أخطر من سدنة المستبد، لأن الوعي الذي يتعلق بهؤلاء هو الذي يحرّك حقائق المواجهة، وأول المقاومة للاستبداد المقيم والفساد المكين. مواجهة هذا الظلم لا تكون إلا باصطفاف المظلومين، لا بهجاء بعضهم بعضاً، ولا بتوزيع الاتهامات بينهم، فيقتتل المظلومون، بينما يمر الظالم بجرائمه.
فبئس هؤلاء الذين يحملون الصكوك من سدنة المستبد، ومن هولاء الذين احترفوا الفرقة، وخرّبوا الاصطفاف والتماسك، لأن الاعتصام يصير من فروض الوقت وواجباته التي تتعلق بهؤلاء الذين يقاومون المستبد، فكل من فرّق بين هؤلاء إنما يضرّ بمعركة مقاومة المستبد، ومواجهة هذا النظام الانقلابي، مهما اعتذر بأسباب، والتمس من مبرّرات، فلنكتفِ بفائض اتهاماتهم. ولكن، علينا أن نصطف لمواجهتهم، إنها أصول معركة الوعي في المواجهة التي يجب أن تكون، فنخرج من دائرة حملة الصكوك إلى دائرة اصطفاف وإعداد لمواجهةٍ في "معركة النفس الطويل".
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".