النساء والكتب

النساء والكتب

27 ابريل 2017

(جبر علوان)

+ الخط -
ثمّة شيء خفيٌّ ونادرٌ يُطوى في داخله ذلك السر الذي يشابه، في حالاتٍ كثيرةٍ، ما بين الكتب والنساء، علّه حظ القراءة، للمرأة أو الكتاب على السواء، أو حظ القارئ، لو صادفهما قارئ. الكتب نساءٌ أيضا غامضاتٌ في طرق الحرير وأسواقه، وتحتاج أيضا، كما القراءة، لصبر وصحة وبصيرة وعمر طويل، كالحديقة، لا تشبع من رعاية البستاني ولا تملّ، والبستاني دائما ما يكون عمره قصيرا، علاوة على أن الحياة صعبة، ولا تراعي أيضا طيبة الورد، والزحام خارج البستان شديد، والشتلات أيضا نادرة.
زحامٌ في القاهرة، والمباني عاريةٌ من الأدب، وحدها المرأة تتكتم جاهدةً على حديقتها، وتزرع أسرارها كل يوم وتنتظر. قد يكون التشابه ما بين الاثنين يبدو في محو الأسرار، أو حتى الرغبة في ذلك. ثمّة زجاجة صغيرة أمامها على المكتب، فيها نبتة ظلٍّ تنبت بالكاد في شكل ورقتين صغيرتين وبخيلتين، وتحنونان في ميل وحياء على جانبٍ من عنق الزجاجة. ماذا تقول الورقتان، تقول كل شيء في كتابٍ جميلٍ ونادر. كتابٌ مهمل في الطبيعة أو ما بعدها، مخصومٌ من عهدة أمين مكتبة في مدرسة الضاهر للشؤون القانونية من ربع قرن، وكان الكتاب مرميا في "السندرة" القديمة للمكتبة، بعد خصمه من العهدة من سنوات طويلة. لماذا تذكّرها بعد كل هذه السنوات الطويلة، وبحث عنها، حتى وجدها في آخر لحظة، كطفلٍ يمسك عصفورةً كامشة في أحزانها في حديقةٍ من دون أن يصدّق. شيء من دمع بهيج كان مركونا بجوار عينيه، وهو يكلمها، وكان صوتها القديم كما هو، لولا نبرة حزنٍ ما كانت كامنةً فيه، بعدها عرف منها أنها ما زالت وحيدة، على الرغم من وجود الخاتم والدبلة، وكأنها تهرب، بهما، من الناس. كان ينهي أوراق معاشه، فصارت هي التي أمامه، والنبتة أمامها تسمع كلامه وترى أطياف دمعه، وهو يحاول جاهدا أن يرى الفرح في عينيها، والنقاب قد دارى ملامح عيونها، فقط كان صوتها ينوب عن جمال عيونها بسرور الحنجرة.
في الوداع قالت له: "سأنتظرك". تأمل السنوات، وتذكر كتبا جميلة على الأرفف نسيها. القاهرة صعبة، والنساء أيضا، حتى البساتين صعبة، حتى الشتلات، هي الأخرى، تنظر إليه، حتى الأسرار هي الأخرى حزينةٌ وثقيلة، حتى الورقتان الصغيرتان في الإناء على المكتب، حتى الراديو الصغير، وهو مفتوحٌ على إذاعة القرآن الكريم، بصوت خفيض لا يصل إلا إليها. وحده الخاتم في أصبعها كما عهده، والدبلة كما هي. سألها: "كما أنت؟". قالت: "كما أنا". مشى. كانت القاهرة خفيفةً جدا، بأحزانها وبزحامها، وكانت الأسرار كلها تمشي معه هادئةً. أسرار الناس والنساء وحتى حي العباسية نفسه، كان مثل نبتة ظل من ورقتين، قابضة بحكمة وصمت، على أسرارها في الزجاجة، أو ككتاب حزين مرمي في "سندرة" في مكتبةٍ تابعةٍ لإدارة وسط القاهرة التعليمية من خمس وعشرين سنة. فهل يكون التشابه بين الكتب والنساء هو كتمان السر؟ كانت وهي جالسة، كل آن، ترمي بسمةٍ من كتابها الغامض. كنت أحس أن كل بسمة منها تحسبها بحكمة، وكأن النبتة الصغيرة كانت تحسب لها حساب بسماتها، وأنا كنت أحاول جاهدا أن أستحضر أفراح الصوت القديم، حينما كانت تلاقيني مسرورةً بلا حاجز على عيونها.
هذه القاهرة عجيبة وغادرة، وصامتة صمت هذه النبتة داخل الزجاجة، وللفرح معي رقصة الصوت القديم، وهو يهتز في حنجرتها بلا أي حذر، أيام كنت أن أخرج من مكتبها، فأرى النيل واسعا جدا وسعيدا، وكان كل ما في الجيب قليلا ورقيقا. توصلني الكتب أحيانا إلى أول عذابي، فتزداد الأسرار ألغازًا، ونكبر.

دلالات