لا مستقبل لنا من دون الحرية

لا مستقبل لنا من دون الحرية

26 ابريل 2017
+ الخط -
شكّل الاستبعاد من المشاركة جوهر العملية السياسية في الدول العربية، على مدى نصف القرن المنصرم من الحياة السياسية العربية، ففي استبعاد المواطنين والقوى السياسية المعارضة من المساهمة في العملية السياسية وتفاعلاتها وآليات تمثيلها، افتقدت الدول العربية أشكال التعبير السياسي المعلن عن المعارضة ضمن مؤسسات الدولة التي يحتكرها طرفٌ واحدٌ مستبعداً القوى الأخرى. وبحكم هذا الاستبعاد، شكّل الاحتقان السياسي البديل عن المشاركة السياسية، والذي أخذ، في حالاتٍ، شكل العنف المسلح، رداً على الإلغاء السياسي للمعارضة، فالدولة باعتبارها طرفاً مهيمناً على العملية السياسية والاقتصادية في البلدان العربية، بوصفها "المؤسسة الكلية"، سمحت، في ظل غياب المشاركة السياسية، وفي ظل غياب رقابة المجتمع المدني على أداء السلطة السياسية ومحاسبتها ومعاقبتها في انتخاباتٍ نزيهة، بانتشار الفساد الذي استشرى في دول عربية عديدة، إلى درجة أصبحت محاربته واحدةً من الأحلام مستحيلة التحقيق في ظل دولة الاستبداد ذاتها. وقد عمل هذا الفساد الذي استشرى هيكلياً على تكوين شرائح اجتماعية، حوّلت الفساد إلى مؤسساتٍ لها آليات عمل متماسكة وتقاليد راسخة، في مقدمة هذه الآليات إغناء المواطنين وإفقارهم، حسب الموقف من السلطة السياسية والولاء لها. وأصل الفساد يكمن في تحويل مؤسسات الدولة التي يُفترض أنها تؤدي خدمةً عامة للجميع إلى خدمة مصالح النخب الموجودة في السلطة، وإلى احتكار شخصي، بذلك يتحول المنصب السياسي إلى وسيلةٍ لخدمة المصالح الشخصية، بدل أن يكون وسيلةً لأداء خدمة عامة، تسعى إلى خدمة مصلحة المجتمع.
في هذه الشروط، افتقدت العملية السياسية قواعدها المحدّدة للتفاعل بين السلطة والمجتمع، بين
 الاقتصاد والسياسة، فعدم خضوع العملية السياسية لقواعد محدّدة، أو عدم الرجوع إليها لإصدار القرارات السياسية المتعلقة بمصائر الدولة والمواطنين، تركا العملية السياسية من دون آليةٍ واضحةٍ، يجري اتباعها لتحقيق المشاركة السياسية الفعلية، باعتبار المواطن هو مرجعية الدولة عبر المشاركة السياسية. ولكن واقع الحال في الدول العربية أن الاستبداد الذي سيطر على كل العملية السياسية، وإلى حد كبير، على كل العملية الاقتصادية، أخضعها إلى قواعد وشروط اعتباطية، وأول شروط هذه العملية، استبعاد الآخرين من المشاركة في صنع القرار، والوسيلة الأسهل لممارسها احتكار السلطة، هي الاحتكار المطلق للقرار السياسي، وتحويل القوى السياسية الأخرى من شركاء في العملية السياسية إلى خدم للمستبد، واعتماد آليات القمع وسيلةً وحيدةً لحماية النظام. بذلك، تم تدمير العملية السياسية بشكل نهائي، وجعلها لاغيةً من حيث المبدأ. فالصورة التي أسفر عنها الوضع في دول عربية عديدة، عشية الثورات العربية، هي تدمير المجال السياسي باستخدام أدوات العنف، وفي حالاتٍ كثيرة، تحت شعارات وطنية، لا تجد أي مضامين حقيقية لها في التطبيق العملي لهذه السلطات الشمولية.
تضامنت عملية إلغاء السياسة في السنوات الأخيرة، مع مجموعة الشروط الاقتصادية والاجتماعية المتردية والتي زادت نسبة الفقر بوتائر متسارعة، وترافقت مع سياسات إعادة الهيكلة الاقتصادية، والتي تعني تفكيك القطاع العام وزيادة دور القطاع الخاص، مما يزيد المعاناة الاجتماعية لشرائح واسعة تنضم إلى الفقراء يومياً. فما تزال أحزمة البؤس تتوسع في محيط المدينة العربية وبسرعة. وقد أصبحت أوضاع عشرات الملايين تتسم بالحاجة إلى الضرورات الأولية وتصنّف تحت خط الفقر، ما جعل هذه القطاعات تعيش في حالة من اليأس والإحباط وفقدان الأمل في المستقبل. وكل يوم تعاني قطاعات متزايدة من هذه الأوضاع المتردية، بسبب البطالة والفقر الذي أصاب مئات الآلاف من خريجي الجامعات، وهو ما طبع دولاً عربية عديدة في السنوات الأخيرة، وشكل بيئة ملائمة لنمو الحركات الاحتجاجية على الرغم من كل آليات القمع.
لم تكن السلطة القمعية في العالم العربي القائمة على القمع ومنع المشاركة السياسية، ضمانة 
لحماية الدولة من التعبيرات اليائسة للغضب الاجتماعي. لأن إقفال المجال السياسي على نخبة السلطة، دفع قطاعات واسعة إلى البحث عن وسائل خلفية لدخول العملية السياسية، وقد وفر المجال الديني هذا الدخول، في ظل غياب ومصادرة المجال الطبيعي للممارسة السياسية، وفرض هذا الدخول من المواقع غير الطبيعية للعملية السياسية أساليب العنف في التعبير عن المطالب. فانطلقت القوى الجهادية في ثمانينيات القرن الماضي للتعبير عن هذا الاحتقان الاجتماعي الموجود في الدول العربية، والتي عبرت عن نفسها من خلال العمليات الإرهابية التي استهدفت الأبرياء لتعميق أزمات السلطة، وأخذت في بعض الحالات شكل المذابح البشعة.
وفّر الربيع العربي الفرصة المواتية، لتجاوز الاحتقانات القائمة في الدول العربية التي انفجر فيها، وكان الوعد في إنتاج حياة سياسية عربية جديدة، وعدا بات في متناول اليد. فقد أصبحت عملية التغيير ضرورية، ولا يمكن أن يسير العالم العربي إلى الأمام بدونها. وكانت الشرط الضروري لتغير واقع، تحول إلى حالة من الاستنقاع لا خروج منه، إلا بثورات شعبية تطيح، ليس بالسلطة السياسة وحسب، بل وفي الواقع القائم كله أيضاً. لكن مسار الربيع العربي لم يكن سلسا، فقد تبيّن أن حجم الخراب والاختراق السلطوي للبنية المجتمعية أكبر مما كان متصوراً. ولعدم إقرارها بشرعية الحركات الاحتجاجية ضدها، وإبداء مقاومة جنونية للتمسك بالسلطة. أدخلت سلطات الاستبداد في دول الربيع العربي في موجة من الصدامات المسلحة، ما جعل وعد الربيع العربي كله مهدّداً من الأساس.
عمل القمع الوحشي الذي اعتمدته سلطات الاستبداد لمواجهة الربيع العربي على تصاعد العنف المسلح، باضطرار الحركات الاحتجاجية للجوء إلى السلاح في مواجهة القمع الوحشي لأنظمة الحكم (الحالتان السورية والليبية وإلى حد كبير الحالة اليمنية)، ما أدخل الأوضاع في هذه الدولة في حالةٍ من التفكيك المجتمعي، وإدخالها في حربٍ أهليةٍ دمويةٍ مدمرة، في حال تصاعدها، وترافقها مع أوضاع اقتصاديةٍ واجتماعيةٍ يائسة، تضغط بقسوة على قطاعاتٍ اجتماعيةٍ، تتسع باستمرار. شكّل ذلك كله بيئةً ملائمةً لتضخم القوى الجهادية ذات المنشأ القاعدي (نسبة إلى تنظيم القاعدة)، وقد ساهمت سلطات الاستبداد نفسها في دعم هذه القوى بشكل مباشر وبشكل غير مباشر، لتصوير هذه القوى بوصفها البديل الوحيد عنها، ولتقول إنها، كسلطات مستبدة، هي أهون الشرور، لأن بديلها هو تيارات الإسلام الجهادي الإرهابية، وأن الربيع العربي لا وجود له، وليس هناك حركات شعبية لها مطالب سياسية تتمحور حول قضايا الحرية.
هل هذا يعني أن وعد الربيع العربي بات من الماضي؟ بالتأكيد لا، تؤكد الأوضاع الجديدة، على صعوبتها، أن الحرية هي الطريق الوحيد الذي يمنح هذه الدول فرصة صناعة مستقبلها، وكل خيار عدمي آخر يذهب بها إلى ماضٍ أسود، هو آخر ما تحتاجه المنطقة، وهو ما يجعل مستقبلها قاتماً.
D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.