عن شعوبٍ تشبهنا ولا تشبهنا

عن شعوبٍ تشبهنا ولا تشبهنا

26 ابريل 2017
+ الخط -
هل يمكننا أن نتعلّم من تجارب الآخرين؟ هذا ما فكّرت فيه، عندما استوقفني نص مثير لروائي "نوبل" ماريو فارغاس يوسا، يصف فيه أحوال قارته اللاتينية، وقد وجدت، في بعض مفرداته، حالنا في العالم العربي، وبدا لي أننا مهمومون بالهموم نفسها التي تشغل أذهان اللاتينيين، هم يطمحون مثلنا إلى إنشاء صيغ تكامل وتوحيد بين أقطار القارة الشاسعة التي مساحتها ضعف مساحة أوروبا، فقد قسمت السيطرة الكولونيالية قبل أكثر من خمسة قرون القارة إلى بلدان عديدة، وفرضت بينها حدوداً اعتباطية، كي تسهل إبقاء نفوذها عليها، ولم يثر هذا التقسيم المصطنع القادة "الوطنيين" الذين وصلوا إلى السلطة بعد نيل الاستقلال، بل إنهم اكتشفوا فيه ما يريحهم من المتاعب، وما يضمن بقاءهم في مواقع القرار. ولذلك وجدوا أنفسهم منساقين على نحو تلقائي للحفاظ عليه وتكريسه، وجعلوا الوضع أكثر سوءاً من خلال فصل مجتمعات بلدانهم التي يجمع بينها ما هو أعمق من اختلافاتها، وعزّزت النزعات القطرية للحكام المحليين التنافس والاختلافات التي اتخذت شكل حروبٍ في بعض الحالات، فيما استنزفت الشركات المتعددة الجنسية ثرواتها، والتي كان يمكن أن تستخدم في عمليات تحديث مجتمعاتها وتقدّمها.
تكتمل لدينا الصورة، عندما يعرّفنا يوسّا بأن ما هو مثير حقاً أن ما بقي صامداً في كل تلك المواجهات، ولم يستطع، لا الحكام الأجانب ولا "الوطنيون"، من تخريبه، هو تراث شعوب القارة، وثقافتهم التي ظلت عامل وحدة، إذ اكتشف معظم المثقفين والكتاب والفنانين ورجال الفكر وكل المبدعين أن وحدة اللاتينيين أهم من فرقتهم، وشكلت تلك الرؤية جسراً بين كل الأعراق والأديان والأصول التي تزخر بها القارة في فسيفساء وتنوع نادريْن. ومنذ ذلك الوقت، لم يخطر في ذهن الأميركي اللاتيني، وحتى الأوروبي أو الأفريقي القادم من بعيد، أن يكون في يومٍ ما عرضة للتمييز أو الإقصاء، ونعرف نحن أن معظم دساتير دول القارة اللاتينية التي تخضع إما لدكتاتورياتٍ شعبوية مستبدة أو ديمقراطياتٍ فاسدة، تحمل نصوصاً صريحة في تحريم التمييز العنصري أو الديني أو العقيدي. وعلى أية حال، قد يساهم العمل لاحقاً على ترسيخ القيم الديمقراطية والتطور الدستوري لأقطار القارة في جعل المواطنين سواسيةً أمام القانون، ما يطرح إمكانية تحول القارة إلى نموذج للتعايش البنّاء والشفافية أمام دول العالم.
ويعتبر يوسا ثروة اللاتينيين في تنوع أصولهم وأعراقهم ودياناتهم وثقافاتهم، وليس في مواردهم الطبيعية، ولا في الطابع الجغرافي لقارّتهم التي عدّت، منذ زمن بعيد، مسرحاً للأساطير، ومصدراً للإلهام. وهذا ما دفع الأوروبيين إلى القدوم إليها، كما جعل سكانها يتطلعون إلى أن تكون قارتهم "الفردوس الذي تلتقي عنده كل الأساطير الحية"، واللاتينيون مثلنا يبحثون في ذاكرتهم عن أساطير يعيشون من خلالها في أمجاد الماضي. واحدةٌ من هذه الأساطير تحكي قصة "نساء الأمازون المحاربات" اللواتي كن يقطعن أثداءهن، لكي يستطعن إطلاق السهام بمرونةٍ عند مواجهة الأعداء، وقد عكست معظم أسماء المدن والأرياف والمظاهر الجغرافية للقارة هذه الفانتازيا الأسطورية، وأخذ "نهر الأمازون" اسمه منها، وظلت تلك النظرة الرومانسية كما هي، على الرغم من تغير المفاهيم الفكرية والاجتماعية في العصر الحديث، واستمر المفهوم "الأسطوري" في التصدير إلى المجتمعات الغربية في صيغة "أحلام" و"يوتوبيا"، واهتم الأوروبيون بذلك، من خلال ذاكرة انتقائية، دفعت سكان أميركا اللاتينية أنفسهم إلى الإمساك بأساطيرهم القديمة، كما لو أنهم تملكّوا شيئاً عزيزاً عليهم، وخاصاً بهم. ويقرّ الروائي البيروني أن ثمة حالة تخلف في الميدان السياسي، فيما لا نرصد مثله في فنون الرسم أو الموسيقى أو الرواية، إذ هناك غنى ثقافي وتراثي متنوع لا يمكن تجاهله. وما تحتاجه القارة اليوم، بحسب يوسا، هو مغادرة اليوتوبيا الأسطورية، والتحرّر من السحر والوهم، لكي تستطيع مواكبة العالم، وأن تكون أكثر حكمةً لأن السعادة والرفاه لا يتحققان فقط عبر غلق عيوننا، ولكن بمواجهة الحقيقة من أجل إنهاء التعاسة والقضاء على الاستبداد.
نحن، العرب، أيضاً في حاجةٍ لأن نخلق من التنوّع العرقي والديني عندنا عامل وحدة، وليس عامل فرقة، وأن نكون أقل أوهاماً وأكثر حكمةً، لكن السؤال يظل مشرعاً: هل يمكننا أن نتعلم من تجارب الآخرين؟
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"