أكثر من انتخابات

أكثر من انتخابات

26 ابريل 2017

صحيفة لوفيغارو الفرنسية.. ماكرون صوت الاحتجاج الصاعد (24/4/2017/فرانس برس)

+ الخط -
صوّت 75% من الفرنسيين للتغيير، وليس لمرشحي النخبة التقليدية في الحزبين الكبيرين (الاشتراكي والحركة من أجل الجمهورية) اللذين سيغيبان لأول مرة في تاريخ الجمهورية الخامسة عن الدور الثاني لانتخابات الإليزيه، حيث انهارا أمام شاب عمره 39 عاما، رفع شعار فرنسا إلى الأمام، وخرج يبشّر ببرنامج الخيار الثالث، وأمام سيدةٍ تنتمي لليمين المتطرّف، حصلت على 7.6 ملايين صوت، ووعدت الفرنسيين بالخروج من الاتحاد الأوروبي، وإرجاع الفرنك، وطرد المهاجرين، ومكافحة الإرهاب بكل الوسائل الممكنة.
لا يعتبر صعود اليمين المتطرّف تدريجيا في كل الاستحقاقات الفرنسية ظاهرةً في هذه الانتخابات، بل كان معروفا أن يصوّت الفرنسي الغاضب على صوتٍ شعبويٍ، يعده بحلول سهلة لمشكلاتٍ معقدة، ويقول له: سنخلق مناصب شغل بطرد المهاجرين، وسنوقف ترحيل الوظائف إلى الخارج بنهج احترازي، يوقف زحف العولمة، وسنحارب الإرهاب بطرد كل المشتبه فيهم من فرنسيين من أصول عربية... لكن اللافت في انتخابات فرنسا تصدُّر الشاب إمانويل ماكرون نتائج الاقتراع الرئاسي بـ23.75%، وهو الذي لم يكن معروفا سوى لأقلية من نخب اليسار وسط الحزب الاشتراكي، قادم من القطاع البنكي، ولم يسبق أن انتُخب في أي مؤسسة تمثيلية. كيف صنع في ظرف سنة اسما وبرنامجا وعلامةً سياسيةً استقطبت أكثر من ثمانية ملايين صوت، وجعلت هولاند وفيون وجوبيه وهامون وغيرهم يدعون الفرنسيين إلى انتخابه رئيسا للجمهورية في الدور الثاني.
أول تفسير سياسي وأيديولوجي يساعد على فهم الظاهرة، تموقع قائد "حركة إلى الأمام" في الوسط، واقتراحه حلاً ثالثاً لتجديد السياسة الفرنسية. أخذ، منذ اليوم الأول، مسافة من المعسكرين معا، اليمين واليسار، لكنه اتخذ موقفاً معارضاً وبشدة تجاه اليمين القومي المتطرّف، فلم يهادن مارين لوبان وجمهورها، كما فعل مرشّح يمين الوسط فرانسوا فيون، وهذا ما جعل منه خيارا واضحا للذين يعارضون اليمين المتعصّب، ويبحثون عن وجهٍ جديد، وضع ماكرون برنامجا ليبراليا سياسيا، واجتماعيا اقتصاديا.
الأمر الثاني أن ماكرون شبه صفحة بيضاء وخارج المؤسسة الحزبية التقليدية، ما ساعده على أن يكون صوت الاحتجاج والغضب الصاعد من المجتمع الفرنسي تجاه الطبقة السياسية الغارقة في الفساد وتضارب المصالح والامتيازات واستغلال المناصب. ضيق الناخبين من النخبة الحاكمة في اليمين واليسار دفع شريحةً واسعةً من المواطنين، خصوصا الشباب، إلى التصويت لشاب ليبرالي تبدو عليه علامات "الحلم بفرنسا جديدة".
ثالث عامل يفسّر الصعود السريع لماكرون الذي اصطف خلفه الحزبان الكبيران في اليمين والوسط، وباقي الأطياف السياسية، لمنع مارين لوبان من الرئاسة، وسائل الإعلام الجديدة، وتأثيرها القوي وسط الشباب الذين شاركوا بفعاليةٍ في دعمه، كما فعل ترامب في أميركا، حيث صعد على ظهر "تويتر" لمخاطبة الجمهور الواسع، حيث لم تفلح الميديا التقليدية في حجب صوته عن الجمهور. كذلك فعل ماكرون، وظّف "فيسبوك" و"تويتر" على نطاق واسع، لإيجاد حالةٍ ثقافيةٍ تدعم برنامجه السياسي، باعتباره صوت شابٍّ حر مستقل من خارج "الأوليغارشية" القديمة، يبشر بأمل جديد، ويدعو الناس إلى نسيان الماضي والانخراط في المستقبل.
كشفت نتائج الاقتراع حجم التغيرات في بلاد ديغول، حيث ينقسم المجتمع الفرنسي اليوم بين مشروعين كبيرين: الأول يمثله ماكرون، ويدافع عن الانفتاح الثقافي والسياسي والانخراط في العولمة، وعلاج أمراض الرأسمالية من داخلها، والتمسّك بالحلم الأوروبي، وإعادة تجديد ثوب الجمهورية الخامسة بالتصالح مع التراث الليبرالي للثورة الفرنسية، وليس ببعث التاريخ الميت للقومية. المشروع الثاني تمثله مارين لوبان التي تدافع عن الانغلاق الثقافي والتعصّب القومي، والانعزالية الاقتصادية، وإعادة بعث الحدود الجغرافية في السياسات العمومية، ومجابهة العولمة بإدارة الظهر لها، مع تسويق الخوف من الإرهاب والمهاجرين والمسلمين والاتحاد الأوروبي واليورو وفضاء شينغن والسوق المفتوح وحرية تنقل البشر والرساميل والثقافات..
عبّر الناخب في بريطانيا عن غضبه في "بريكسيت". وعبّر الناخب في أميركا عن ضيقه بانتخاب ترامب. أما في فرنسا فعبّر جزءٌ معتبر من الناخبين عن أملهم في شاب عمره 39 عاما، وفي السابع من مايو يدخلونه قصر الإليزيه رئيسا.
A0A366A1-882C-4079-9BED-8224F52CAE91
توفيق بوعشرين

كاتب وصحفي مغربي، رئيس تحرير جريدة "أخبار اليوم" المغربية.