فرنسا تواجه "برج بابل" رئاسياً

فرنسا تواجه "برج بابل" رئاسياً

23 ابريل 2017

قبل مناظرة بين مرشحي الانتخابات الفرنسية (4/4/2017/فرانس برس)

+ الخط -
مرشحان من اليمين المتطرّف واليمين المحافظ، مرشحان من اليسار المعتدل واليسار الراديكالي ومرشح من يسار الوسط. يليهم آخرون من اتجاهات ومشارب متنوعة، بمن فيهم أيضا مرشح تروتسكي، وهؤلاء يخوضون معارك رمزية ومن باب إثبات الوجود. مشهد انتخابات رئاسية لم تشهدها فرنسا من قبل، وسط غموضٍ شبه كامل، يقابله تشابه بين المرشحين الخمسة الأول الذين يتقدمون واجهة المنافسة في دورة الاقتراع الأولى صباح يوم غد الأحد. وأوجه التشابه في معظمها سلبية، إن من حيث عدم تفوّق واضح لمرشح على الآخرين، وتكاد حظوظ معظمهم متساوية، أم لجهة الشخصية غير الكاريزمية لمعظمهم، أو لجهة تورّط بعضهم بفضائح فساد مالي، طاولت مرشحي اليمين المحافظ والعنصري على السواء، واللذين تم استدعاؤهما للتحقيق. إنه مشهد أقرب إلى "برج بابل"، يختلط فيه الحابل بالنابل على الناخب الفرنسي.
يتوجه الفرنسيون إذاً إلى صناديق الاقتراع في دورة الانتخاب الأولى لاختيار خلف للرئيس الحالي المنتهية ولايته، الاشتراكي فرنسوا هولاند. وعشية التصويت، تبدو استطلاعات الرأي والتوقعات مشوشةً، لا ترجح تفوق أي مرشح بعينه على الآخرين بشكل حاسم. وتبدو حظوظ المرشحين الخمسة تقريبا متساويةً لتجاوز الدورة الأولى والتقدّم إلى الثانية التي ستنحصر بين اثنين، وتجري في 6 مايو/ أيار المقبل. والخمسة هم زعيمة "الجبهة الوطنية" اليمينية المتطرفة مارين لوبان، ومرشح "الجمهوريين" (الديغوليين السابقين) اليميني المحافظ، فرنسوا فيون، ومرشح يسار الوسط الشاب إيمانويل ماكرون (39 سنة) وزير الاقتصاد السابق في حكومة الاشتراكي جان مارك إيرولت، والمرشح الاشتراكي بونوا هامون، ومرشح اليسار الراديكالي جان لوك ميلانشون الذي يعلن أنه إذا انتخب رئيسا سيُنهي "الجمهورية الخامسة"، ويخرج فرنسا من حلف شمال الأطلسي (الناتو).
عمّقت الحملة الانتخابية على مدى الأشهر الماضية الانقسام والتشرذم الذي أصاب المعسكرين الرئيسيين، والتراجع في شعبيتهما، أي الاشتراكيين والديغوليين السابقين الذين أصبح اسمهم
اليوم "الجمهوريين"، واللذين يتناوبان على حكم فرنسا ورئاستها منذ الجنرال شارل ديغول (1959-1969) مؤسس "الجمهورية الخامسة" الذي اضطر إلى الاستقالة من الرئاسة بعد عشر سنوات، إثر خسارته استفتاء 1969 حول إصلاحات فرضتها "ثورة أيار" الطلابية والشبابية في 1968. وخلفه في الرئاسة رئيس حكومته، جورج بومبيدو الذي وافته المنية عام 1974، قبل إكماله ولايته إثر مرض عضال. وسجلت الانتخابات الرئاسية يومها أول خروج على "الديغولية" بفوز الليبرالي ووزير المالية، فاليري جيسكار ديستان، على زعيم الحزب الاشتراكي، فرنسوا ميتيران، بفارق ضئيل جدا لا يتعدى 1%. ثم تواجه الاثنان مجددا عام 1981 وكانت الغلبة لميتيران الذي كسر احتكار اليمين للرئاسة، وتمكّن من التجديد عام 1988 ولاية ثانية، ودام حكمه 14 سنة.
إلا أن الاشتراكيين لم يتمكنوا من الاحتفاظ مجدّدا بالرئاسة عام 1995، إثر عودة الديغوليين المنضوين تحت لواء "التجمع من أجل الجمهورية" إلى الحكم، مع فوز جاك شيراك رئيس الحكومة أكثر من مرة، سواء خلال حكم ديستان أو خلال "المساكنة" مع ميتران، والذي شغل منصب عمدة باريس سبع عشرة سنة (1977 – 1995). وأعيد انتخاب شيراك عام 2002 في مواجهة اليميني المتطرّف وزعيم الجبهة الوطنية، جان ماري لوبان الذي شكل يومها مفاجأة مدوية بصعوده إلى الدورة الثانية، قاطعا الطريق على زعيم الحزب الاشتراكي، ليونيل جوسبان، الذي اضطر للخروج من السباق. وهذا ما دفع الاشتراكيين إلى التصويت لخصمهم التقليدي شيراك من أجل قطع الطريق إلى قصر الإليزيه على لوبان.
وقد تمكّن الديغوليون عام 2002 من الاحتفاظ مرة أخرى بالرئاسة بفوز نيقولا ساركوزي على مرشحة الحزب الاشتراكي، سيغولان رويال، إلا أن ساركوزي الذي كان عهده من أسوأ عهود الديغوليين في السلطة، والذي تفشّى فيه الفساد، لم يتمكّن من التجديد. وخسر أمام زعيم الحزب الاشتراكي والرئيس الحالي، فرنسوا هولاند، الذي قرّر ألّا يترشح لدورة ثانية لإدراكه صعوبة المهمة الناتجة عن النتائج المخيبة لسياسته الداخلية بالتحديد. ما فتح الباب على مصراعيه أمام تضعضع الاشتراكيين، وانقسامهم على أنفسهم نتيجة الخلافات وكثرة الطامحين. وقد أدت الانتخابات الداخلية التمهيدية إلى فوز مفاجئ لهامون بترشيح الحزب، وخروج رئيس الحكومة إيمانويل فالس من السباق.
وفي المقلب الآخر، يتنازع "الجمهوريين" عدة رؤوس، من ساركوزي الذي حاول العودة، إلى
رئيس الحكومة في عهده، فرنسوا فيون، إلى جان فرنسوا كوبيه أمين عام الحزب، وآلان جوبيه رئيس الحكومة الأسبق في عهد شيراك. وانحصرت المنازلة في التصفيات الداخلية بين جوبيه وفيون الذي تمكن بشكل مفاجئ من الفوز بترشيح الحزب، غير أن فضائح الفساد راحت تلاحقه إلى حد استدعائه للتحقيق بتهم فساد واستعمال نفوذ لصالح زوجته وأولاده. ولكنه أصر على البقاء في السباق، على الرغم من اعتراض قطاعات واسعة داخل الحزب، معرّضا نفسه لاحتمال الخسارة، وربما عدم التأهل حتى إلى الدور الثاني.
فهل انتهت الثنائية الحزبية؟ لا تبدو لوبان أحسن حالا، لانكشاف تورّطها في فضائح مالية مشابهة تخص بعض الأنصار والمقرّبين منها، فقد طلب القضاء الفرنسي من البرلمان الأوروبي رفع الحصانة عنها، وهي العضو في البرلمان الأوروبي، وليس الفرنسي، كي يتمكن من إحالتها إلى التحقيق، إلا أن هذا التطور لم يمنعها، على ما يبدو، من الاحتفاظ بهامش تقدم نسبي في استطلاعات الناخبين، وترجيح انتقالها إلى الدورة الثانية في 6 مايو/ أيار.
ويبقى السؤال: من سيكون منافس لوبان في الدورة الثانية؟ ماكرون أم فيون أم حتى ميلانشون؟ يبدو ماكرون الأوفر حظا، لأنه يحظى بدعم جزء من الاشتراكيين، يتقدمهم هولاند نفسه وفالس، ويمين الوسط، مثل المرشح الرئاسي السابق، فرنسوا بايرو، وبعض من الديغوليين الناقمين على فيون، فاذا انحصرت المنافسة بينه وبين لوبان، فان اليسار، بمعظمه وقسم كبير من اليمين، سيجد نفسه مضطرا للوقوف إلى جانبه. ويعتبر المفكر الفرنسي، مارسيل غوشيه، أن ماكرون هو "الأقل سوءا" بين المرشحين، وبإمكانه أن يحدث خرقا لدى الشباب الناقم يمينا ويسارا، غير أن كثرة المرشحين، وخصوصا غياب البرامج الشافية لمشكلات الفرنسيين، وخطاب التعبئة العنصرية، واستمرار الخوف من تكرار عمليات الإرهاب "الداعشي" التي ضربت فرنسا أكثر من مرة... عوامل من شأنها أن تفتح الباب أمام عنصر المفاجأة، وتدفع الفرنسيين إلى خيارات غير متوقعة.
5231ACF6-F862-4372-9158-B1655EE52A60
سعد كيوان

صحافي وكاتب لبناني، عمل في عدة صحف لبنانية وعربية وأجنبية.