شعاعٌ من فيروز

شعاعٌ من فيروز

21 ابريل 2017

أنسي: لصوت فيروز سبعون نافذةً مفتوحةً على الصباح (Getty)

+ الخط -
لم يتزيّد محمد عبد الوهاب لمّا قال إن صوتها قادمٌ من السماء. ولم يُسرف أنسي الحاج لمّا كتب أن لصوتها سبعين نافذةً مفتوحةً على الصباح. ولم يذهب إلى المجاز محمود درويش لمّا رأى أن صوتها يُرشدنا إلى ما يجعل الأعداء عائلةً. ولم يأتوا بشيء من عنديّاتهم من وصفوا صوتها ملائكيّا. هذا من بعض ما يأتي إلى وجدانِك، وأنت تتملّى في إطلالتها الجديدة، وهي في خشوعٍ غزير، تقول تسع تطويباتٍ في ترنيمةٍ ارتفعت إلى العلا، بصوتها، وهي تبدو كما البهاء، في كنيسة القديس جاورجيوس في لبنان، في عيد الفصح، يوم الأحد الماضي. الجلالُ في المكان، والتعبّد لله، والنجوى في طلب السلام، بعض ما يظّلل روحَك بشعاعٍ من راحة بال، تهنأ به، وأنت تُنصت للصوت الذي من نور، وهو يقول طوبى للحزانى، وللرحماء، وللجياع، وللعِطاش، وللودعاء، ولأنقياء القلوب، ولصانعي السلام، وللمضطهدين، وللمساكين. تردّد أصواتٌ لا ترى أصحابَها طلباً من الله أن يذكرَها، وهو القدّوس، متى أتى في ملكوته. تفد إليك هذه الأصوات، وهي تُنشد وتكلّم صاحب الملكوت، من دون موسيقى، أو بشيءٍ شحيحٍ منها. وفي حضرة هذا الحب الكثير لله، في هذه البرهة القصيرة من التبتّل، يمسّك غموضٌ ما، أو ربما شجىً عميق، ربما لأن جياعا ومضطهدين ومساكين وعطاشا كثيرين، لهم الطوبى هنا، وعذاباتُهم ما صارت إلا لأن ثمّة ناساً في الأرض لا يحبون الله. 

صوتُها في الكنيسة يرفع الترنيمة هو نفسُه الذي نعلم، والذي لا يغادر أرواحنا. لا يُخبرنا، أي صوتُها هذا المقيم فينا، وكذا وجهُها الوديع نفسه، بالسماحة المعلومة فيه، وبجماله الرائق الذي يمكث في مداركنا، لا يُخبرانا بأنها في الواحدِ والثمانين عاما. يبدو أن البهاء الذي فيها، وذلك العسل الصافي في صوتها، منذ صار لها اسمُها الذي نعرف، قبل شيء وستين عاما، لا يجعلان هذه المرأة الصموتة تكبُر، أو تبدو على بعض شيخوخةٍ. الصوتُ بسعتِه إياها، بالذي ظلّ فيه من عجيب الاستثناء، هو نفسُه في الكنيسة، نسمعه في الترنيمة الآن صوتا فقط، من دون أي تطلّبٍ للحنٍ أو إيقاع. يكفي هنا الخشوع في محبّة الله، وطلب الطوبى منه. الأداء هنا شبيهٌ بأداء ترنيماتٍ وأناشيد ومريمياتٍ دينيةٍ غير قليلة، غنّتها أو أشهرتها، لبعضها ألحانٌ فاتنةٌ وباقية، وفي أخرى بساطةٌ ظاهرة. بعضُها معروفٌ من كتَبه، وأخرى غير معروفٍ من كتبها، بعضها رحبانيّ الألحان، وأخرى غير رحبانيةٍ، سريانيةٌ أحيانا. منها "يا أمَّ يسوع يا أمي ويا أملي"، "يا يسوع المسيح في قبرٍ وضعت"، "سبحان الكلمة السر العظيم".. وثمّة طبعا "الطفل في المغارة وأمه مريم". أخذنا أداؤها الترنيمة الجديدة إلى قولها إنها كانت تقعد "ساكتةً وتصلّي"، في إجابتها على سؤالها، مرّة، عمّ كانت تفعل، عندما قُصف بيتُها الأول في شرقي بيروت، ثم بيتُها الثاني في غربي بيروت، في أثناء الحرب الأهلية. هي التي قرأنا أن محمد فليفل الذي رعى موهبتها في طفولتها علّمها تجويد القرآن، ما ساعدها لاحقا على حُسن الغناء.
أتحدّث عن فيروز طبعا. ربما لا مدعاة لهذا الإيضاح، فما ينكتبُ عنها، حيث صوتُها الملائكي وجيرتُها القمر، مثلا، لا يجوز أن يدلّ على غيرها. وكان لبنانيون في زمنٍ مضى لا يعرفون للغناء سوى اسم واحد هو فيروز. ويقال إنها لا تحب الإفراط في مديحها والثناء عليها، ولا خلعَ الألقاب عليها، ولا تستحسن أن توصف أيقونةً وأسطورة. ولكن هذا أمرٌ يخصّها، أما نحن، فلن نملّ من أشياء مثل هذه، ولا من افتتاح الصباحات بأغنياتٍ من فيروز، ولا الأماسي أيضا، ولا جلسات العصارى، فإذا كانت قد عبَرت الطوائف والمدن والأديان، والأشعار والألحان، في حضورها الشاسع في حياتنا، فإنها عابرةٌ أيضاً لأوقاتنا. ..."بعدك على بالي" و"راجعين يا هوى" و"بحبك يا لبنان" و"حبّيتك تنسيت اليوم"، حبّاتٌ قليلاتٌ في عنقودٍ حلو، حبّاتُه كثيرات، زيّنه سعيد عقل وجوزيف حرب وعاصي ومنصور وبديعون آخرون، وكذا طلال حيدر الذي تُستعار قولته "وحدن بيبقو مثل زهر البيلسان"، لتجوز، هنا، عن كل أغنياتها.
شكرا ريم رحباني على الهدية الثمينة التي فاجأتِنا بها، ترنيمة "في ملكوتك"، إخراجاً وإنتاجاً. فيروز في الواحد والثمانين عاما، بصوتها الطفل العتيق.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.