ديستان.. يمين فرنسا الجديد في محاولات إصلاحية إجتماعية

ديستان.. يمين فرنسا الجديد في محاولات إصلاحية إجتماعية

03 ابريل 2017

ديستان... فشل اقتصادياً ونجح في سن تشريعات اجتماعية (Getty)

+ الخط -
بعد وفاة الرئيس الفرنسي، جورج بومبيدو، بشكل مفاجئ في أبريل/ نيسان عام 1974، كان لا بد من المسارعة إلى الدعوة إلى انتخابات رئاسية مبكرة في الخامس والتاسع عشر من شهر مايو/ أيار من العام نفسه. كانت فرنسا آنذاك تعاني من بداية أزمة اقتصادية كبيرة، عصفت بها بعد الأزمة النفطية التي جاءت ثمرة الحرب العربية - الإسرائيلية سنة 1973، وكانت الفرصة سانحة لدى الحزب الإشتراكي واليسار للتصويب على ارتفاع معدل البطالة في الأشهر الستة الأخيرة من عهد بومبيدو، إلا أنّ الأمر بدا أكثر تعقيداً مع الانسحاب الديغولي من المشهد السياسي، وبروز يمين وسطي جمهوري، يدعو إلى مجتمع ليبرالي متجدّد، كان رافعته فاليري جيسكار ديستان.
شهدت تلك الانتخابات، للمرة الأولى، مناظرة متلفزة بين المرشحين اللذين استطاعا الفوز في الدور الأول (ديستان وميتيران). وسجّلت أعلى نسبة مشاركة في الدور الثاني في تاريخ الجمهورية الخامسة، إذ بلغت نسبة المشاركة 87%. وفسّر كثيرون ذلك في رغبة واضحة لدى الفرنسيين في تغيير سياسي، ينعكس إيجابا على المستويين، الاقتصادي والاجتماعي. كما سجّلت تلك الانتخابات استمرار 12 مرشحا من دون الانسحاب حتى بلوغ الدور الأول في 5 مايو/ أيار.

المرشحون والحملات الانتخابية
وحده فرانسوا ميتيران كان المرشح الذي يمتلك خبرة كافية في الحكم والسياسة، فالرجل خاض سابقا غمار الرئاسيات في وجه شارل ديغول سنة 1965، وشغل 11 منصبا وزاريا منذ الجمهورية الرابعة حتى تاريخ ترشحه، عدا عن سيطرته على مؤتمر الحزب الاشتراكي في إيبيناي، وتوقيعه على برنامج مشترك للحكم مع الحزب الشيوعي الفرنسي، وتنظيمات يسارية راديكالية. هكذا طرح ميتيران نفسه مرشحاً عن اليسار الموحّد، وأصبحت حظوظه كبيرة جدا في الوصول إلى الإليزيه.
كان شعار ميتيران وحملته آنذاك "الفكرة الوحيدة لدى اليمين اليوم هي الحفاظ على الحكم. أريد أن أستردّه وأعيده إلى الشعب". بدا الفاصل الدعائي على بوسترات مطبوعة باللون الأزرق، مع صورة صغيرة أدنى الكلمات، فاشلا جدا مقارنةً بالشعار الذي نادت به حملة جيسكار ديستان "السلام والأمن"، مع تغييرٍ في طريقة طبع البوسترات، إذ عمد منظمو الحملة الجيسكاردية إلى القطع مع المرحلة السابقة التي تطغى فيها الكلمات على الصورة والألوان، فتصدّر بروفايل ديستان الشعار مع الكلمات أعلاه.

منافسة انتخابية
في اليوم نفسه الذي أعلن فيه ميتيران ترشحه، أعلن ديستان، وزير الاقتصاد منذ عام 1962، رغبته في خوض الانتخابات ممثلاً لليمين الجمهوري، الخارج من العباءة الديغولية. وكان
"التغيير في الاستمرارية" شعاره للعهد الرئاسي الجديد، في حال نجاحه في الانتخابات، وقد عوّل، بشكل كبير، على جذب الأصوات الوسطية من التيار اليميني الذي لم يتحالف مع ديغول (جان لوكانويه)، عدا عن أصوات حزبه الجمهوريين المستقلين، وحظي بدعم الديغوليين (UDR) الذين استجابوا لـ (نداء الـ 43) مجموعةٍ محسوبةٍ على تيار الرئيس الراحل، بومبيدو في عدم التصويت للمرشح الديغولي، جاك شابان دالماس. وقد شكل نداء الـ 43 (في إشارة إلى طلب 4 وزراء و39 برلمانيا ديغوليين أو مقربين من تجمع الديمقراطيين من أجل الجمهورية عدم التصويت لدالماس) الذي نظّمه، بدهاء شديد، وزير الداخلية، جاك شيراك، ضربة موجعة لدالماس، لأنّه شقّ الإجماع الحزبي على شخصه مرشحاً وحيداً لليمين الديغولي، وفتح المجال لدعم مرشح اليمين الآخر جيسكار ديستان، لكنّ فشل دالماس في الحملة الانتخابية لم يكن بحاجة إلى هذا الانقلاب الداخلي، فالرجل لم ينجح في بلورة برنامجٍ يتوجه فيه إلى القاعدة الناخبة في معسكر اليسار، خصوصا العاطلين عن العمل وكبار السن والنساء.
وتميزت انتخابات عام 1974 بأنّها الأولى التي تشهد مشاركة نسائية في الترشح، وكان ذلك عبر أرليت لاجويلر، البالغة 34 عاما، التي طرح اسمها حزب وحدة التروتسكيين، بعد قيادتها بزخم إضراب عمال مصرف كريديت ليونيه (LCL اليوم)، ومشاركتها بفاعلية إلى جانب النقابي، شارل بياجيه، في إضراب عمال مصنع ليب (Lip) للساعات في مدينة بيزانسون. بعدها أصبحت أرليت مرشحة التروتسكيين التاريخية، فترشحت لخمس دورات انتخابية متتالية، كان آخرها عام 2007.
بعد تأسيس حزبه الجديد على الساحة الفرنسية "الجبهة الوطنية"، قرّر جان ماري لوبان خوض الانتخابات ممثلاً لليمين المتطرف في فرنسا، لكنّه تعرّض لضربة داخلية، بعد إعلان آلان روبير وفرانسوا برينيو انشقاقهما عن الحزب، وتأسيس "لجنة العمل الجبهوي" (أصبح لاحقا حزب القوى الجديدة النيو فاشي). ووجد لوبان نفسه ضعيفا في أول مشاركة انتخابية، لكنه قرّر الاستمرار في ترشحه، ولم يحصد أكثر من 1% من الأصوات في الدور الأول.
وخاض جان روير، عمدة مدينة تور التاريخي، الانتخابات يمينياً محافظاً، يريد مواجهة الانفتاح والتحرّر، وفي الخصوص جنسيا. لذلك سخر منه كتاب وصحافيون، وأطلقوا عليه لقب "المرشح الذي يريد محاربة البورنوغرافيا". وفي لقاءاته الانتخابية في تولوز وليون، شهدت المدينتان احتجاجات كبيرة، وعمدت صبايا إلى التعرّي عمدا، ولاقى المرشح هتافاتٍ تدعوه إلى الانسحاب، وتشبّه حملته بحملة الماريشال بيتان العسكرية "روير وبيتان، النضال نفسه".
مرتديا سترة من القطن حمراء، متنقلا على دراجته في لقاءاته الانتخابية، بمظهر غريب جدا، خرج رينيه دمون إلى الساحة السياسية مرشحاً مناصراً للبيئة، يناضل ضد الاكتظاظ والكثافة السكانية، ضد استخدام السيارات، ضد الباطون والمعامل النووية، وحتما ضد المجاعة والفقر. في عدد 29 أبريل/ نيسان سنة 1974 من "الإكسبرس"، ترسم إليزابيث شيملا بورتريه الرجل السبعيني الذي عمل بروفيسورا في الهندسة الزراعية في المعهد الوطني للزراعة 20 عاما، رينيه دومون العارف بكل صغيرة وكبيرة في الشؤون البيئية، والباحث الذي أصدر عشرات المؤلفات البيئية، كان آخرها مادة بحثية طويلة عن النسيج البيئي ومكوناته. وتختم شيملا مقالها "مع الأسف الكبير، لم يتوجه أحد من المرشحين إلى دومون، للاستفادة من خبرته ومعرفته العميقة، ولم يسع أحد إلى طرح الملف البيئي في برنامجه الانتخابي ضرورةً لفرنسا المستقبلية".
تداعى الفرنسيون إلى صناديق الاقتراع في 5 مايو/ أيار، وتصدّر فرانسوا ميتيران الدور الأول بنسبة 43.3%، وجاء جيسكار ديستان ثانياً بـ 32.6% من الأصوات، فيما حلّ جاك شابان-دلماس ثالثا مع 15٪‏ من الأصوات. وشهد الأسبوع الفاصل بين الدورين، الأول والثاني، مناظرة تلفزيونية للمرة الأولى بين المرشحين للوصول إلى الإليزيه، ستبقى عالقة في أذهان 25 مليون فرنسي (من أصل 29 مليوناً مسجلين على لوائح الشطب) مع جملة ديستان التي توجّه بها إلى ميتيران، بعد انتقادات وجّهها له الأخير، يرى في ديستان بورجوازيا لا يملك قلبا، حيث قال له "أنت لا تمتلك احتكار القلب". وفي الدور الثاني، استطاع ديستان أن يحسم السباق بفارق بسيط جدا من الأصوات، حيث نال 50.9%‏ من الأصوات لقاء 49.1% لميتيران، وأصبح الرئيس الثالث لفرنسا تحت الجمهورية الخامسة.

الإصلاح الاجتماعي
لا يمكن الحديث عن السنوات السبع التي قضاها ديستان في الإليزيه، من دون العودة إلى
التشريعات التي تم سنّها في عهده، للتأكيد على تطوّر الأعراف، بعد ثورة مايو 1968. ويبقى قانون "تحديد النسل" الذي يعرف بقانون نويريث، نسبة إلى النائب الديغولي الذي اقترح، عام 1966، تحرير استخدام وسائل منع الحمل، إضافة إلى قانون الإجهاض الذي يعرف بقانون فيل، نسبة إلى وزيرة الصحة، سيمون فيل، من أشهر الإصلاحات التي شهدتها فرنسا في عهد ديستان، ويلجأ بعضهم إلى تشبيه سن تلك التشريعات (منع الحمل والإجهاض) بقانون منع الإعدام الذي شهدته ولاية ميتيران الأولى دليلاً على نجاح موجة 1968 في تحقيق مطالبها.
ولا يمكن نسيان قانون الطلاق بالتراضي، الذي أصرّ ديستان على تشريعه، لتسهيل عمليات الطلاق، من دون اللجوء إلى المحاكم. وتأكيدا على نجاح فكرته، نشرت يومية لوموند في العام 2013 تحقيقا، استندت فيه إلى أرقام مسجلة تظهر أنّ ثلث عمليات الطلاق اليوم في فرنسا تتم بالتراضي.
كما أنه، في العاشر من أكتوبر/ تشرين الأول 1979، وبعد مرور 21 يوما على سقوط حكم بوكاسا في أفريقيا الوسطى، سرّبت صحيفة "لو كانار أنشينيه" رسالة موقعة من الرئيس، جان بيبيل بوكاسا، يطلب فيها تسليم مدام ديمتري (سكرتيرة المكتب الرئاسي) لوحة ألماس من عيار 30 قيراطاً لرئيس الجمهورية الفرنسية، جيسكار ديستان. وكتبت الصحيفة أنّ ديستان، بصفته الرئاسية، الوحيد المخوّل بعدم التصريح للجمارك عن الهدايا التي تلقاها عند عودته من الخارج، لكنّها أكّدت أنّ ديستان حصل على الألماس سنة 1973 خلال شغله منصب وزير الاقتصاد والمالية في عهد الرئيس بومبيدو. وتساءلت الصحيفة "هل صرّح ديستان، بصفته وزيراً للمالية، عما تلقاه من صديقه بوكاسا؟" واستندت إلى تقرير نشرته "لوموند" في 21 سبتمبر/ أيلول 1979، وشهادة للسفير الفرنسي في العاصمة الأفريقية، بانغي، حول تبادل الهدايا بين الرئيس بوكاسا والوزير ديستان. لاحقا، استخدمت المعارضة اليسارية هذه القضية، لتحاسب ديستان وتحاكمه في الانتخابات التي ستجري عام 1981، والتي لقي فيها ديستان خسارةً أمام مرشح المعارضة فرانسوا ميتيران.
أصرّ ديستان على عدم الاكتراث بالأزمة الاقتصادية المستمرة، على الرغم من استقالة شيراك
سنة 1976، واعتماد الحكومة الجديدة سياسة تقشف اقتصادي، وسجّل عهده انهيارا كبيرا في قطاعات صناعة النسيج والفولاذ والمعادن، وارتفعت نسبة العاطلين عن العمل بشكل قياسي سنة 1980. ويتذكر الفرنسيون المؤتمر الصحافي الساخر الذي عقده فرانسوا ميتيران، عندما علم بترشح ديستان لولاية ثانية، عندما قال "من الصعب اليوم تجاهل ترشح ديستان، كنت أعتقد أنه سيعلن عزوفه عن الترشح، ويقدم اعتذارا للشعب الفرنسي. ديستان، بارون البطالة، ماركيز اللامساواة، كونت ارتفاع الأسعار، دوق التكنوقراطية، أمير الدعاية، وملك التخدير".
أخفق ديستان اقتصاديا، ونجح في سن التشريعات الاجتماعية حول تحديد النسل والطلاق وحق الإجهاض (تم منع العقوبة بحق النساء اللواتي يجهضن)، ونجح في تمكين سياسة أوروبية قوية، ستسفر لاحقا عن الاتحاد الأوروبي. وشكل مع المستشار الألماني الاشتراكي الديمقراطي، هيلموت شميت، ثنائيا ديناميكيا أسس لشراكة حقيقية، تم البناء عليها في اجتماع الدول الخمس (والسبع لاحقا). وترجمت هذه الشراكة في ولادة المجلس الأوروبي الذي يضم اليوم 28 دولة عضواً في الاتحاد الأوروبي.
وكان ديستان أول رئيس فرنسي يزور الجزائر، بعد نيلها الاستقلال، وقد وعد بتحسين العلاقات، لكنّها سرعان ما بردت، بعدما دعمت فرنسا موريتانيا في حرب الصحراء الغربية. وتأزمت العلاقات بين فرنسا ونظام العقيد معمر القذافي، بعد أحداث قفصة، وإدانة ديستان العملية المسلحة التي نفذها كوموندوز تونسي، مدعوم من حكومة طرابلس الغرب، وعلى إثرها أحرق ليبيون السفارة الفرنسية في طرابلس، وتم الاعتداء على المركز الثقافي الفرنسي في بنغازي. وشهدت نهاية سنة 1975زيارة تاريخية لمصر، قابلها الشعب المصري بأغنيةٍ ساخرة، كتبها أحمد فؤاد نجم، ولحّنها وغناها الشيخ إمام عيسى.
لكنّ محاولة التقرب وصنع صداقة مع شعوب أفريقيا انتهت مع معركة كولويزي، عندما أرسلت فرنسا فرقة من المظليين (الفرقة الخارجية) إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية لتحرير الرهائن الأوروبيين، الذين احتجزهم ثوار جنوبيون في كاتانغا، المحافظة المشهورة بأنها مركز لتعدين النحاس والكوبالت واليورانيوم. وشهدت العملية العسكرية استخدام الفرنسيين سلاح القنص (FR-F1) أول مرة.