حين يعيد الأسرى الفلسطينيون البوصلة الوطنية

حين يعيد الأسرى الفلسطينيون البوصلة الوطنية

20 ابريل 2017
+ الخط -
بالتزامن مع يوم الأسير الفلسطيني الذي يحييه الشعب الفلسطيني في السابع عشر من إبريل/ نيسان كل عام، أعلن آلاف الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال البدء في إضراب جماعي عن الطعام ضد سياسات سلطات السجون الإسرائيلية المرتبطة بحياة الأسرى، من ارتفاع لعديد المعتقلين الفلسطينيين من النساء والأطفال، وحرمان من الزيارات العائلية وتقييدها، ومن سياسات الإهمال الطبي المتعمد، والتي أدت إلى زيادة أعداد المرضى في صفوفهم، بل واستشهاد بعضهم. وكذلك احتجاجا على المحاكم الجائرة، والاعتقالات الإدارية التعسفية، وانتهاءً بسياسات القمع والاقتحام المتكررة لغرف المعتقلين، والتنكيل بهم بشتى الأساليب، مستخدمين الضرب بالعصي والغازات المختلفة.
ليس إضراب المعتقلين الفلسطينيين الحالي عن الطعام الأول من نوعه، بل سبقه أكثر من 23 إضرابا جماعيا على مدار سنوات الاحتلال الخمسين الماضية، والتي بدأت في العام 1968، في سجن نابلس، احتجاجا على سياسات الضرب والشبح والتعذيب، مرورا بإضراب سجن نفحة الصحراوي في العام 1980، والذي استمر 33 يوما بشكل متواصل، واستشهد في اثنائه الأسيران، راسم حلاوة وعلي الجعفري، بعد أن عمدت سلطات السجون، إلى كسر إضرابهما بالقوة، مستخدمة أساليب التغذية القسرية الممنوعة، بأنابيب بلاستيكية تصل إلى معدة الأسير عبر فتحة الأنف، ما أدى إلى حصول ثقوب وجروح في المعدة والأمعاء ونزيف داخلي، ما تسبب باستشهادهما، عدا عن إصابة معتقلين عديدين. وثمة إضرابات عن الطعام عديدة، بعد الانتفاضة الثانية، احتجاجا على سحب سلطات السجون الإسرائيلية إنجازاتٍ كثيرة حققتها الحركة الأسيرة الفلسطينية عبر سنوات النضال والتضحية الطويلة.
يأتي الإضراب الحالي بعد تراجع الحركة الوطنية الفلسطينية عموما، والحركة الأسيرة 
خصوصا، وتراجع النضال الوحدوي الجماعي للمعتقلين، ما دفع بعض الأسرى إلى أن يخوضوه بشكل فردي، الأمر الذي لم يؤدّ إلى الضغط على سلطات السجون الإسرائيلية، للاستجابة لمطالبهم. كما يأتي الإضراب الجديد في وقت تشن فيه حكومة إسرائيل حملة عالمية للضغط على السلطة الوطنية الفلسطينية، لإيقاف رواتب الأسرى، سواء الذين ما زالوا خلف قضبان الاحتلال أو الذين تم إطلاق سراحهم، ووصل الأمر إلى طرح مشروع إسرائيلي على الكنيست (البرلمان) الإسرائيلي لاقتطاع أكثر من 70 مليون دولار من عائدات السلطة الفلسطينية الجمركية، والتي تذهب رواتب للأسرى لإعالة أسرهم. ويأتي الإضراب في وقتٍ صعّدت فيه سلطات السجون الإسرائيلية من حملاتها القمعية ضد الأسرى، والتي طاولت معظم مرافق الحياة، حيث تعمد إلى رفض إصدار تصاريح زيارة لأفراد من القرابة الأولى لزيارة ذويهم في السجون، بحجة المنع الأمني، والتي طاولت آلافاً من أسر المحتحزين الفلسطينيين، وتقليل عدد الزيارات المسموح بها ومدتها، في ظل إجراءات قاسية جدا، يتعرّض لها أهالي المعتقلين، بدءا من المطالبة بالحصول على التصاريح الخاصة، ومرورا بطريقهم إلى الزيارة، وما يتعرّضون فيه من إهانات وإعاقة، وعدم تمكنهم من مصافحة ذويهم الأسرى، بسبب الجدران الزجاجية الصلبة التي تفصل بين الأهالي والمعتقلين، ما حرم آلاف الأسرى الآباء، والأسيرات الأمهات، من معانقة أطفالهم واحتضانهم وتقبيلهم، بسبب تلك العوازل والحواجز الزجاجية. ولم تتوقف السياسات الإسرائيلية بحق الأسرى عند موضوع الزيارات، بل وصلت إلى حرمانهم من إكمال تعليمهم الجامعي، ومنعهم من الحصول على العناية الطبية اللازمة، ورفض زيارة أطباء متخصصين لمعالجة الحالات المرضية والصعبة، ما أدى إلى استشهاد عدد من المعتقلين، كما شملت تلك الإجراءات حرمان الأسرى من الوجبات الغذائية الصحية، ومن أبسط الحقوق الأساسية للعيش الآدمي الكريم.
يعتبر الإضراب الحالي نقطة تحول مهمة جدا في مسيرة الحركة الأسيرة الفلسطينية، لتعيد البوصلة الوطنية إلى النضال الفلسطيني ضد الاحتلال، خصوصا أن قيادة الإضراب تضم رموزاً وطنية كبيرة، وتحظى باحترام الشارع الفلسطيني وتأييده، ومنهم عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، مروان البرغوثي، والأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أحمد سعدات، ما يجعل من الإضراب انتفاضة جديدة ضد الاحتلال الإسرائيلي وسياساته، ويعطيه زخما جماهيريا فلسطينيا كبيرا، بعد تراجع المشاركة الشعبية الفلسطينية بفعل الانقسام المدمر، والذي أثر سلباً على حجم المشاركة الشعبية في النضال الوطني ضد الاحتلال، وانشغال الفصائل بالمناكفات الداخلية، ما أحدث تراجعاً واضحاً للحركة الوطنية الفلسطينية.
وحسب تقرير لهيئة شؤون الأسرى والمحرّرين، ونادي الأسير الفلسطيني، والجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، قامت إسرائيل، عبر سنوات الاحتلال، بأكثر من مليون حالة اعتقال، والتي تصاعدت بشكل كبير في الانتفاضتين، الأولى والثانية، حيث تم اعتقال أكثر من مائة ألف فلسطيني، بعد الانتفاضة الثانية في العام 2000 فقط، منهم 15 ألف طفل، و1500 امرأة، ونحو 70 نائبا ووزيرا، ومعظمهم من حركة حماس، حيث لا يزال 6500 أسير خلف القضبان الإسرائيلية، موزّعين على 24 سجنا ومركز توقيف إسرائيليا، منهم 300 طفل، و57 امرأة، من بينهن 13 فتاة قاصرا، إضافة إلى 500 معتقل إداري تم اعتقالهم من دون توجيه لوائح اتهام ضدهم. وهناك 29 أسيرا، تم اعتقالهم قبل توقيع اتفاقية أوسلو في العام 1993، وكان من المفترض أن يتم الإفراج عنهم منذ فترة طويلة، ومنهم كريم يونس وماهر يونس من الأراضي المحتلة في العام 1948، وتم اعتقالهما في 1983، وكانا من ضمن الدفعة الرابعة التي كان متفقا على الإفراج عنها في 2014.
لم تحقق إسرائيل أغراضها من اعتقالها كل هؤلاء الفلسطينيين، وفشلت في كسر إرادتهم
الوطنية، وفشلت في تشويه المناضل الفلسطيني وتجريمه، ونزع صفته الإنسانية، فقد تحولت السجون الإسرائيلية من محطات للتدمير والتيئيس إلى مدارس وطنية كبيرة، تخرج منها قادة الفصائل والقوى الوطنية، كما تخرج منها رؤساء وأساتذة في الجامعات، ووزراء، وأعضاء في المجلس التشريعي، ورؤساء بلديات ومؤسسات وهيئات، حيث انتصرت إنسانية السجين الفلسطيني أمام همجية السجّان الاسرائيلي ووحشيته، وأصبح هذا السجان عاجزا عن قهر إرادة السجين. وما كان لهذا أن يحدث، من دون تضحيات الحركة الأسيرة الفلسطينية، وقد استشهد في سنوات الاعتقال والاحتجاز 210 أسرى، عدا عن معاناة الآلاف، وظل الجوع سلاحا لرفض الركوع والخنوع، فكانت آلام أمعاء السجين سلاحا لمواجهة بطش السجان وقمعه.
الإضراب الحالي محطة جديدة في مسيرة التحرّر الفلسطيني، وسيعيد البوصلة الوطنية، وسيعيد إلى الحركة الأسيرة دورها القيادي في الحركة الوطنية الفلسطينية، بعد أن كادت تضيع، بفعل عوامل كثيرة مختلفة. وكان كاتب هذه المقالة قد خاض تجربة الإضراب المفتوح عن الطعام، ومعركة الأمعاء الخاوية، في ثمانينيات القرن الماضي في سجون الاحتلال، ويدرك جيدا حجم المعاناة والآلام التي يمرّ بها المضرب عن الطعام، كما يدرك تماما الأثر النفسي والمعنوي الكبير على المعتقلين المضربين عن الطعام، للتحرّك الجماهيري المساند والداعم لهم في معركتهم الوطنية الإنسانية العادلة، خصوصا أن هؤلاء المعتقلين ضحوا بحياتهم في سبيل خدمة شعبهم في مسيرة التحرّر الوطني والاستقلال، ولم تكن لهم مشاريع وأجندة خاصة.