الأقباط ومصادرة صوت الضحية

الأقباط ومصادرة صوت الضحية

15 ابريل 2017
+ الخط -
يقول المثل المصري "يقتل القتيل ويمشي في جنازته". ويقول الواقع المصري إنهم بعد قتل القتيل يمنعون الحديث عن جنازته. بعد التفجيرات الإرهابية، الأحد الماضي، ظهرت موجة من كتابة الشباب المصريين الأقباط عن مظلوميتهم، ذكرياتهم عن التمييز والإيذاء في المدارس والشوارع، مشاعرهم بالخوف في الكنائس ..إلخ.
في المواجهة، ظهرت فوراً موجة لكبت هذه الأصوات وسحقها معنوياً، يشترك بها إسلاميون و"دولجيون" على حد سواء. أول أركان خطاب الكبت الإسلامي هو الاستدعاء التاريخي. عليكم الصمت، لأنكم لم تدفعوا ثمن جرائمكم، والتي تبدأ من أعماق التاريخ حيث الحروب الصليبية، ونمرّ بالاستعمار الإنكليزي، وأيضاً غزو أميركا التي تحميكم العراق، وبالطبع تأتي الشماعة الكبرى: البابا تواضروس أيد عبد الفتاح السيسي، وبالتالي، فأي شيء وكل شيء هو نتيجة ما فعلتم بحق دماء ميدان رابعة، أو على الأقل هو نتيجة لما فعلته الكنيسة والدولة بكم. لا تلومونا ولوموا أنفسكم.
النوع الثاني من الخطابات الإسلامية هو المزايدة بالمظلومية، تدخل الأخوات إلى صفحة الفتاة المسيحية ليطلبن منها الصمت، لأنهن أيضاً تعرّضن للتمييز لأنهن منتقبات. يردّدن أن المسلمين هم المظلومون في البلد، نحن الذين تُغلق مساجدنا بعد الصلاة بساعة، وأنتم كنائسكم مفتوحة دائماً. المسلمون هم من يدخلون السجون، لا أنتم.
النوع الثالث أكثرها وقاحة، حيث لا يكتفي بمطالبتهم بالصمت، بل يؤكد أن كلامهم يخالفه "كل النصارى العاقلين". دائماً يتحدّثون عن هذا القبطي المثالي. "النصارى العاقلون" يعرفون أن حكم الشريعة كان أفضل أيامهم، وكلهم يتمنون عودتها. "النصارى العاقلون" يعرفون أنهم أخطأوا بتأييد السيسي. وبالطبع، يعرف "النصارى العاقلون" أن تفجير الكنائس تمثيلية أمنية دبّرتها الدولة.
تبدو حالة رفيق حبيب مع جماعة الإخوان المسلمين نموذجاً لافتاً، فالرجل الذي كان أساساً إنجيلياً، أي لا ينتسب للكنيسة الرئيسية المصرية، كان يتبنى آراءً محافظةً للغاية من الشريعة الإسلامية، تجاوز حتى بعض "الإخوان" أنفسهم. هذا الرجل الخارج تماماً عن تمثيل قاعدته كان يُقدّم باحتفاء كأنه ممثل للأقباط في المحافل الإخوانية، وتم تعيينه عضواً في لجنة كتابة الدستور. ما أجمل الحياة لو أصبح كل الأقباط مثل الدكتور رفيق.
هناك آخرون من ذوي الأصوات المصادرة. المرأة المثالية مثلاً تظهر في كتبهم معترفةً بنقصها، سعيدةً بحرمانها من الحقوق والمساواة. شاهدت شيخاً سعودياً يقول إن المرأة السعودية هي من ترفض قيادة السيارة.
على الجانب المقابل، صادرت الدولة أيضاً صوت الضحية المسيحية على طريقتها. أولاً، كان ظهور أهالي الضحايا من الأصل محدوداً للغاية في الإعلام، امتلأت القنوات باللواءات المتقاعدين، وأيضاً بأهالي شهداء الشرطة، ثم بأهالي المتهمين أنفسهم، بينما كان بإمكانك أن تعثر بصعوبةٍ بالغة على حديث أهالي أحد الضحايا. إذا كان من المحتمل أن يقولوا ما لا يرضينا، فمن الأفضل أن يختفوا أصلاً.
ثانياً، مورست مراراً لعبة التخويف من الأسوأ، من الأفضل أن تصمت، وتحمد الله أن كنيستك ليست في سورية أو العراق، لولا الجيش المصري لحكمك "داعش".
ثالثاً، الأكثر وقاحة هنا كان أن المتحدثين المصروفين للفضائيات بدورهم تحدّثوا باسم الأقباط: الأقباط يعرفون أنه لا تقصير أمنياً من الداخلية.. الأقباط يعرفون أن الهجوم لا يستهدفهم، بل يستهدف مصر كلها.. الأقباط يقدّرون ظروف البلد، ولن يطالبوا بمطالب خاصة (تلميح لمشكلات بناء الكنائس).. كل الأقباط خلف القيادة السياسية.
الدولة أيضاً تملك نموذجها للأقباط العاقلين. والدولة أيضاً صادرت أصوات آخرين، مثل النوبة والبدو. ومن زاوية أخرى، هناك الفقراء أو الصعيد، كلها فئات مهمّشة، هناك من يظهر في الإعلام بالنيابة عنها، أو يظهر "عاقلٌ" منهم ليتكلم وحده. لن تشهد مناظرة بين نوبي يؤيد حق العودة ونوبي يرفضه.
كل هذه الحيل تُمارس من أجل الهرب من الحقيقة، وما يستتبعها من مواجهة المسؤوليات: مسؤولية الإسلاميين في مراجعة الخطاب الديني السائد، ومسؤولية الدولة عن حماية الأقباط، وعن المساواة والمواطنة والعدالة لجميع المواطنين. لكن تكرار الكذبة يضرّ من أطلقها، لأنه يصدّقها في النهاية، ويتصرّف على أساسها ليصل إلى نتائج فاشلة ومشوهة. الواقع لن يتغير بخداع النفس قبل الغير. فلنسمع أصوات الضحايا، كل الضحايا.