من يُعيد "العاشقين"؟

من يُعيد "العاشقين"؟

14 ابريل 2017
+ الخط -
من سجايانا، نحن العرب، في طور الانحطاط الذي نعيش، أننا مبدعون في إماتة الحالات البديعة بيننا. وتستقدم وفاةُ أحد كبار منشدي التغريبة الفلسطينية، الشاعر أحمد دحبور، أخيراً، إلى البال واحداً من شواهد وفيرة على هذه الحقيقة، هو مآل فرقة العاشقين، الأميز والأشهر بين الفرق الغنائية في غير شتاتٍ فلسطيني. وقد كان الراحل من أركانها، وممن ساهموا في انطلاقتها في دمشق، وفي صنيعها الفني الذي جعل لها موضعاً متقدّما طيّبا في ذاكرة الفعل الثقافي والوطني الفلسطيني، فهو الذي كتب لها أكثر أغنياتها ذيوعا. "إشهد يا عالم علينا وع بيروت"، و"الله لزرعك بالدار، يا عود اللوز الأخضر" و"هبّت النار والبارود غنّى"، وغيرها كثير. وحكاية "العاشقين" معلومة البداية، ومسار تألقها أيضا، غير أن نهايتها مشوّشة، ولا سيما أن هناك من يقول إن الفرقة موجودةٌ، بعد انقطاعٍ وتعثّر، غير أن الحقيقة الأوضح أنها حالةٌ بديعةٌ انتهت. وكان دحبور قد نشر مقالةً له، قبل نحو أربعة أعوام، عنوانُها "من يجمع العاشقين؟"، سرد فيها نتفا من البدايات الشائقة، واختتمها بسؤاليْه: أما آن لهذه الفرقة أن تُستعاد؟ من يجمع شمل العاشقين؟".

وفي إحاطةٍ أوفى، كتبها لاحقا، نُشرت شهادةً في كتاب نبيل عمرو عن إذاعات الثورة الفلسطينية، استعرض دحبور البدايات والنجاحات الأولى لفرقة العاشقين، من دون ذينك السؤاليْن، غير أن العازف خالد الهبّاش، أحد "هبابشة" الفرقة العتيدة (ضمته وأخوين وأختين له) كان قد بقّ البحصة، في مقابلةٍ مع صحيفة الإمارات اليوم (21/5/2009)، وقال إن الانشقاق في الساحة الفلسطينية كان المسؤول عن "تفكّك" الفرقة، في إشارةٍ إلى محاولات فصائل فلسطينية، سورية الهوى، في الثمانينيات، الاستحواذ على "العاشقين"، وغيرها. ومعلومٌ أن الفرقة كانت تحظى برعاية دائرة الثقاقة والإعلام في منظمة التحرير ودعمها، ويسجّل لمدير الدائرة، عبدالله الحوراني، أنه من دفع إلى تكوين الفرقة في العام 1977، ثم إشهارها وإسنادها. وقال الهبّاش "أنهى الانشقاق في حركة فتح فرقة العاشقين، .. ورفضنا أن نكون خاضعين لحساب أيّ من المنشقين، ولم يعد التمويل موجودا". وسأل: "لماذا لا تأبه وزارة الثقافة الفلسطينية بنا؟".
كأن هذا السؤال، والأخريان من أحمد دحبور، صيحاتٍ لا أحد يجد مدعاة لسماعها. ولذلك، في مقام تذكّر "العاشقين" هنا، مع رحيل شاعرها الأبرز، يحسُن تذكّر رفاقه في بناء هذه الأمثولة الفلسطينية. المقدسي، حسين نازك، الموسيقي الذي صنع ألحان أغاني الفرقة وإيقاعاتها، من قصائد لدرويش وزيّاد والقاسم ونزار وغيرهم، قبل الانعطافة الوازنة إلى دحبور. اللبناني الشامي الفلسطيني، حسين المنذر، صاحب الصوت الأشهر في الفرقة، والذي وصفه دحبور بأنه "الجبل الذي يغنّي". السوري الكردي، ميرز مارديني، مصمم الرقصات واللوحات، الذي تمكّن من استثمار طاقات شباب الفرقة وشاباتها وفتيانها، وقد سمّوه "نسر العاشقين". عازف العود أحمد الناجي، عازف الفلوت مدير الفرقة، محمد سعيد ذياب. صوت الكورال هناء منصور، وأختها بثينة منصور، الأولى في الرقص التعبيري، وغيرهم.
يتحدّث دحبور والهبّاش، وكذا الباحث الذي تقصّى "العاشقين" جيدا، في كتابٍ توثيقي، فادي عبد الهادي، عن "حفلة عدن" البهيجة للفرقة في 1983، باعتبارها "الضربة" (بتعبير دحبور) التي صنعت للفرقة قفزةً كبرى في شهرتها، العربية والدولية. ولا ينسى صاحب هذه الاسترسالات "كاسيت" تلك الحفلة، وتبادُلنا له إبّان كنا طلابا في الجامعة آنذاك. وعندما تشاهد الحفلة (أكثر من ساعة) في "يوتيوب" الآن، تنشدّ حواسّك إلى التناسق الأنيق بين الكلمات والإيقاعات، وتلك الروح الوطنية، وذلك الفوتيك الأخضر، يلبسه المغنّون والمنشدون والراقصون والعازفون. تتملى في تصفيق ياسر عرفات، في مقدمة الحضور، بحبٍّ وفرحٍ. وتغشاك أشواقٌ إلى أنفاس تلك الأيام، قبل الزمن الأغبر الذي صرنا فيه، والذي لا يقنعنا فيه قولٌ إن "العاشقين" عادت، وما زالت تغني لفلسطين.
ألبوم تلك الحفلة هو الرابع بين ثمانية ألبوماتٍ، تتوفر على القسم الأكبر من أغنيات "العاشقين"، كتب أغانيه أحمد دحبور، الباقي سؤالُه: "من يجمع شمل العاشقين"؟

دلالات

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.