لئلا نخدع أنفسنا في سورية

لئلا نخدع أنفسنا في سورية

11 ابريل 2017
+ الخط -
ما يفصل مجزرة الأسلحة الكيماوية في الغوطة الغربية عن المجزرة الأحدث في خان شيخون ليس مسافة زمن فقط، بل سلسلة من الأحداث والتغيرات، سلك العالم فيها طريق التحول في مواقفه من الثورة السورية، من رافض ظاهري لبقاء بشار الأسد في تسلطه على سورية إلى مرحلة القبول العلني للأمر الواقع، والإقرار بضرورة التعامل معه، ليس على الصعيد الاستخباراتي الذي كان يجري في الخفاء، بل أيضا بصيغة بقائه على سدة الحكم في سورية، وفق التصريحات المعلنة.
حدث هذا إثر مواجهة أوروبا مشكلات مجتمعية، تتصدّرها مسألة الدفاع عن الهوية والثقافة المحلية التي هدّدت بقدوم أفواج من اللاجئين، يحملون ثقافات مختلفة، ويرفضون الانخراط في المجتمعات الأوروبية، إضافة إلى أن أعدادهم سوف تتضاعف في المستقبل القريب، لا البعيد، نتيجة الولادات الكثيرة التي هي من سمات المجتمعات التي جاؤوا منها، يقابله عزوف كثيرين من جيل الشباب الأوروبي عن الإنجاب تحت ذرائع شتى، تتصدّر الرغبة للتفرّغ للعمل إحداها، وهذا يعني أن عدد السكان المحليين سيتضاءل في المستقبل أمام حالةٍ من النمو المرتفعة التي تشهدها مجتمعات الوافدين. أيضا الهجمات التي تعرّضت وتتعرّض لها هذه المجتمعات من أفرادٍ بعينهم، كنتيجة حتمية لنمو الجماعات المتطرّفة في الدول التي تشهد صراعات داخلية، يقابله غض الدول الغربية الطرف عن الأسباب الحقيقية التي ولّدت مثل هذه الحالات الشاذة في مناطق الصراع. والأهم من هذا كله هو إخفاء المعرفة بمصادر التمويل الحقيقي لهذه الجماعات، والإعلان عن مصادر تمويل غير مقنعة لشح مردودها (تجارة الآثار والنفط في غياب المرافئ التي يجب أن يصدّر عبرها ليقدم مردودا جيدا) مقارنة مع الإمكانات المادية الكبيرة التي تتمتع هذه الجماعات بها، والآليات المتطوّرة التي تستخدمها. هذا إن لم نشأ طرح السؤال عن كيفية حصولهم على هذه المعدات في ظل حصارٍ، يفترض أن يحول دون ذلك، مع الإشارة إلى أهمية التمويل واحداً من أهم أسباب بقاء هذه الجماعات ونموها، وتمدّد نفوذها في
أرجاء العالم الإسلامي، ثم باتجاه الدول الغربية على شكل "ذئاب منفردة"، تعمل على بث الرعب، ونشر الموت في الدول التي يستهدفونها، ما يجعل من مواقف الساسة أمرا يدفع إلى الإرتياب، ويبعد الثقة عن حكومات العالم، مرجّحا فكرة فقدانها مصداقيتها.
لقد شهدت سورية بين التاريخين الآنفي الذكر أكثر من 140 حالة هجوم بمواد سامة تسببت بوفاة كثيرين، إضافة إلى حالات الولادات المشوّهة، نتيجة استنشاق الأهل المواد السامة، من دون أن يتحرّك العالم بشكل جدّي، ويتخذ موقفاً يعمل على إيقاف نزيف الدم السوري، ويمضي فعليا إلى الأمام لدعم الحل السلمي الذي تم ترويجه بعناية، من دون أن يظهر على سطح الأحداث سوى تراجع القوى الكبرى عن موقفها في دعم محادثات السلام التي انتهت إلى أيدي من يساهمون بالحرب، إلى جانب حكومة النظام، داعمين له ومدافعين عنه، وهذا يجافي منطق الأمور التي تقول "إن الشريك في الفعل لا يمكن أن يكون قاضيا يبت بأمره لعدم حياديته"، ما يعكس عدم الاهتمام الفعلي بما يجري في تلك البقعة من العالم، على الرغم من حيوية موقعها شرق البحر المتوسط، أو هوية دول الجوار التي حتمتها الجغرافيا والمواقف العالمية التي طمست يوما هوية دولة، لتصنع دولة أخرى بجرّة قلم. هذا إن لم نشأ القول إن ما يجري يخدم المواقف غير المعلنة.
يشير ظاهر الأمور إلى تبدل مفاجئ في المواقف الدولية، بعد جريمة الثلاثاء الأصفر المريرة التي أصابت بلدة خان شيخون السورية، بلغت ذروتها بالضربة العسكرية التي وجهت إلى المطار السيئ السمعة. عمد المحللون السياسيون في أميركا وبعض أنحاء العالم إلى توضيح ما جرى من الزاوية التي يرون بها الحدث، وهي زاوية تقارب المنطق، كونها لا تعتمد العاطفة مفتاحاً لفهم الأحداث، بل لغة العقل التي أعادت بوصلة ما جرى إلى المصالح الحيوية التي أخذت بالاعتبار، وتقع ضمن دائرة اهتمام الإدارة الأميركية في ظل نجاح الحزب الجمهوري في الانتخابات، وهو الحزب الذي عرف أنه يوجه جل اهتمامه إلى تعزيز صورة أميركا قوة تقود العالم، صورة اهتزت بعمق نتيجة لسياسة الرئيس السابق، باراك أوباما، التي وصفت بالمتردّدة، بينما دلت مجريات الأحداث التي مضت أنها كانت تعتمد سياسةً جديدةً ترسم بحنكةٍ، تهدف إلى قلب موازين القوى في الشرق الأوسط والعالم العربي.
تتوجه الإدارة الجديدة للبيت الأبيض إلى العمل على إعادة الاعتبار للكرامة الأميركية التي مرّغت، وبشكل سيئ، في وحل تصرفات دولة إيران، قوبل بانصياع أعمى وضعيف من حكومة أوباما للمطالب الإيرانية، ما لبثت وسائل الإعلام الأميركية أن كشفت اللثام عنها وتناقلتها، إضافة إلى غياب الدور الأميركي عمّا يجري من أحداث حول العالم، مفسحا المجال لروسيا لكي تأخذ دور الريادة في الظهور لاعباً بالغ الاستهتار على مسرح الأحداث العالمية، يملي شروطه، وينفذ مآربه، مستخدما ذرائع مخابراتية عفا عليها الزمن، لكنها نجحت في خدمة أغراضه، بل أدت إلى ظهور بوادر تصالح وتشارك بين اللدودين، حتى طفت على السطح مسألة التدخل الروسي في سير الانتخابات الأميركية، مشكلة قد تقوّض سلطة الحزب الجمهوري إن ثبتت، وتهدّد منصب الرئيس الحالي. وجاءت الفرصة السانحة إثر مهاجمة خان شيخون، البلدة الصغيرة في وسط الشمال السوري، لتكون الذريعة لقلب موازين الأمور، وتحويل مسار الدور الأميركي، من ضعيف ومتهاون إلى فاعل لا يتردّد باتخاذ موقف فردي سريع ومفاجئ، على الرغم من أن التصريحات أشارت إلى وجود تنسيق عسكري بين القوتين العظميين سبق الحدث، لكنه يظل موقفاً يخدم الأهداف في الداخل الأميركي، المعروف عنه سرعة تجاوبه مع ما يقدّمه الإعلام له.
قد يبدو هذا مخيبا لآمال كثيرين ممن حمّلوا الضربة الأميركية أكثر من طاقتها، بل علقوا عليها آمالا قد تخيبها الأيام المقبلة، وكان عليهم ألا يفعلوا، فالدبلوماسية العالمية تعمل الآن في أروقة الأمم المتحدة لترتيب مآلات الأمور، وفق ما تقتضيه مصالحهم، بعيدا عن أنظار السوريين وعن آمالهم وتطلعاتهم.
A60672CF-812E-4EBA-9E70-59D1E2D3138C
A60672CF-812E-4EBA-9E70-59D1E2D3138C
نداء الدندشي

كاتبة وباحثة سورية، درست التاريخ والآثار في جامعة دمشق، عملت أمينة متحف حمص من 1988إلى 2009. من مؤلفاتها (حمص... لما اكتملت). نشرت دراساتٍ عن عمارة مدينة حمص القديمة.

نداء الدندشي