ظلم يستخدم الدين

ظلم يستخدم الدين

10 مارس 2017
+ الخط -
أشرت في أكثر من مقالةٍ في "العربي الجديد" إلى خطورة الظهير الديني للانقلاب في مصر، وأكدت محاولة استخدام بعض هذه المؤسسات الرسمية لإضفاء شرعنة على انقلابٍ قطع الطريق على مسار ديمقراطي، أيا كانت المبررات والمسوغات، ذلك أن تدخل هذه المؤسسات في المجال السياسي إنما يشكل تراكما لعمل يتعلق باستغلال أساليب دينية في قضايا سياسية، ولا بد أن نتذكّر تلك الحالة التي آل إليها شأن وزارة الأوقاف ووزيرها "الأمنجي"، حينما يقوم بإملاء خطبة الجمعة وتوحيدها على المساجد كافة، ومن المؤسف حقا أن يعتبر ذلك ضمن خطته لتجديد الخطاب الديني، بل ويسعى إلى أن يعد خطبا لخمس سنوات مقبلة. 

وغاية الأمر أن يتحوّل هذا الخطاب إلى منشوراتٍ أشبه بالبيانات، التي تصدر عن الشؤون المعنوية في مؤسسة عسكرية، وهي أمور يمكن تصورها ضمن ما يمكن تسميته تنميط الخطاب، في حالةٍ تشير إلى مشاهد أقرب ما تكون إلى ما نشهده من عسكرة في المجالات كافة، بما فيها الخطاب الذي يصدر عن المؤسسات الدينية، وهو أمر شاهدنا بعض مؤشراته من قبل في محاولات "منع الدعاء على الظالمين"، أو بـ "منع الدعاء على الصهاينة" وأفعالهم، ليشكل بذلك تأميما لساحات الدين، في إطار أحد أهم مشاهد ممارسة الظلم، وليس أظلم من الظلم باسم الدين.
وأخطر من ذلك أن تقدم السلطة طبعتها الخاصة في الشأن الديني، أو في تجديد الخطاب الديني، وتعتبر أنها الموجهة في هذا المقام والحامية لهذا الخطاب، والمصدّرة له. وفي هذا المقام، فإن هؤلاء الذين يتحدّثون في موضوعاتٍ كثيرة تحض عموم الناس على "التحمل"، وعلى "مزيد من الصبر"، معتبرين ذلك من صميم رؤية الدين ليكون الدعوة إلى الصبر والتحمل، صبرا على تعمد إفقارهم، وعلى استمرار ظلمهم، وعلى النيل من حقوقهم، بما يشكل حالةً من حالات تأميم الخطاب الديني، وتأميم مواقف الناس وتأطيرها، لخدمة ظلم المستبد وطغيان السلطان وإفقار المواطن.
هذه الرؤية الخطيرة، التي أشار إليها عبد الرحمن الكواكبي بشكل مبكّر في استغلال الخطاب
الديني لتبرير عمل الاستبداد وسياساته الظالمة، إنما تشكل أكبر مظاهر الظلم الديني، وممارسة الظلم الممنهج باسم الدين. "وهذه الحال هي التي سهلت، في الأمم الغابرة المنحطة، دعوى بعض المستبدين الألوهية على مراتب مختلفة، حسب استعداد أذهان الرعية، حتى يُقال إنه ما من مستبدٍّ سياسي إِلى الآن إِلاَّ ويتخذ له صفةً قدسيةً يشارك بها اللّه، أو تعطيه مقاماً ذا علاقة مع الله، ولا أقل من أن يتخذ بطانةً من خَدَمه الذين يعينونه على ظلم الناس باسم الله".
كذلك فإن محاولة إقصاء روح المقاومة لكل ظلم في إطارٍ من تسويغ الطاعة، وتبرير كل عمل يتعلق بسلطة مستبدة إنما يشكل، في واقع الأمر، حالة من الظلم المستفحلة التي تحاول صناعة الرضا الكاذب، ومحاولة تزييف كل ما يتعلق بالإنسان وإرادته ومحاولة إقصاء مقاومته المستبد وكل سياساته التي تنال من كيانه وحياته، فضلا عن أنها تضر بشكل مباشر وغير مباشر بضروراته ومعاشه.
ومن هنا، فإن هذه الطبعة التي تتعلق بطبعة السلطة للدين التي تفرض حالة من السكوت والصمت، مقصية كل ما يتعلق بالمواقف والمقاومة والاحتجاج، وما أبلغ ما يشير إليه الكواكبي من إدراك المستبد أنّه الغاصب المعتدي، "فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس، يسدّها عن النطق بالحرية والتداعي لمطالبته"، وبمطالعة بعض ما انتشر من خطاب بعض الدعاة الجدد نجدهم يحاولون تصدير كل معاني الرضا بالأمر الواقع والاستسلام لحالة الظلم والاستكانة مزورين ذلك كله تحت عنوان "راحة البال"، حيث يشكل هؤلاء فهما وموقفا يمالئ السلطة وينافقها يتعلق بإسناد الاستبداد، مثل ما أسمى سبع خطوات لراحة البال.
هذه المعاني التي تتعلق بتمكين أحوال الضعف والخنوع وتزيين أشكال الذل والاستكانة ليكون ذلك كله تأمينا لسلطة المستبد وظلم الطاغية، وتشييد عناصر قابلية حال الخنوع والقابلية للظلم والاستبداد، إنه أمرٌ يتعلق باستخدام كل الأسلحة، لتبرير الظلم وتسويغ جبر المستبد وبطشه، ذلك أن ترويج مثل هذه الأمور التي تتعلق بالرضا والصبر وعدم النظر إلى ما في يد الغير، والرضا بالمقسوم، وقبول حالة الفقر على علاتها، والحديث عن رتبة الفقراء، وفضل الفقر على عموم الناس، إنما يشكل محاولةً لتشييد دين الاستبداد وإقراره وتمكينه. وما أعمق مما يذكره الكواكبي "ترضون بأدنى المعيشة عجزاً تُسمّونه قناعة، وتهملون شؤونكم تهاوناً تُسمّونه توكُّلاً. تموِّهون على جهلكم الأسباب بقضاء الله وتدفعون عار المسببات بعطفها على القدر، ألا والله ما هذا شأن البشر".
ويتحوّل طغيان السلطة إلى خطاب وعد الفقر "الشيطان يعدكم الفقر"، ومن ثم فإن خطاب
المستبد يتحرّك صوب مساحات من التبشير بالفقر والجوع (حينما يؤكد المستبد الغاصب والمنقلب الفاجر: أنتم فقرا قوي "أوووي")، لا تدري أهو إقرار على الفقير بفقره، الذي لا يجب أن يفكر في دفعه، أو أنه حال مقضية وحتمية وأبدية، هذا الوعد الفقري "الشيطاني" والحض على الرضا بالذل والطاعة للظلم، إنما تشكل دائرة واحدة في تشكيل الظلم الديني، وحال الاستبداد، وتمكين حال الفقر والإفقار مغموسة بالاستكانة والذل المقيم. إنها استراتيجيةٌ تتعلق بالتجويع، يمارسها هؤلاء الذين يدعون أنهم يحملون رسالة دينية، وهم، في واقع الأمر، يحملون رسالة المستبدّين.
ومن هنا، فإن "انتفاضة الخبز" التي تشكل واحدةً من علامات التأكيد على أهداف ثورة يناير بالبحث عن العيش الكريم، وما سُمِّيَ الخبز في مصر بالعيش إلا لكونه يمثل مادة الفقير لـ "العيش" التي لا يستطيع أن يستغني عنها، وعلى كل هؤلاء الذين يساعدون في إحكام الحلقة على هؤلاء الذين يعانون من الفقر، وينال منهم المستبد، حتى في رغيف العيش، فيسخر بعضهم بنوعٍ من الشماتة، لكونهم يخرجون فحسب، حينما يمس رغيف عيشهم، ولا يستنفرون حينما تستهدف أعراضهم وتستباح دماؤهم.
هنا، يجب أن نؤكد لهؤلاء أن طلب العيش الكريم والخروج من أجله هو مفتتح مطالب الثورة وشعارها "عيش، حرية، كرامة، عدالة اجتماعية"، ويؤكد ما جاء في الأثر "كاد الفقر أن يكون كفرا"، فهل يمكن أن نتعلم هذا الدرس، درس الظلم الديني وانسياق بعضهم لإحكام حلقته على الفقير الذي يستهدف ظلم الظالمين رغيف عيشه، فلا ننزلق إلى من يسوّغون الظلم الديني للفقير بأي شكل، فنكون ومن غير قصد من سدنة المستبدين الذين يقترفون كل أشكال الظلم، وفي مقدمتها الظلم الديني "قصد الاستعانة بممسوخ الدين وببعض أهله المغفلين على ظلم المساكين، وأعظم ما يلائم مصلحة المستبد، ويؤيدها أن الناس يتلقون قواعدَه وأحكامَه بإذعان، بدون بحث أَو جدال، فيودون تأليف الأمة على تلقي أوامرهم بمثل ذلك، ولهذا القصد، عينه كثيراً ما يحاولون بناء أوامرهم، أَو تفريعها على شيء من قواعد الدين"، وما أعظم فرية حينما يظلم باسم الدين.
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".