محمود عبد الفضيل.. وداعاً

محمود عبد الفضيل.. وداعاً

09 مارس 2017

محمود عبد الفضيل.. عاش متفائلا حالما

+ الخط -
تعرّفت على محمود عبد الفضيل في منتديات علمية ولقاءات سياسية، منذ أزيد من ثلاثة عقود. لا أتذكر هل كان لقاؤنا الأول في القاهرة أم في بيروت أم في صنعاء، لكنني أتذكَّر جيداً لقاءاتنا في الأنشطة الأولى للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال سنوات 2011، 2012، 2013، وقد كان محمود، على الرغم من علله، يفاجئ الجميع بصبره وإقباله على الحياة.

أتذكَّر باعتزاز كثير لقاءاتنا في ندوات مركز دراسات الوحدة العربية، والمجلس القومي للثقافة العربية، والمؤتمر القومي العربي، في عواصم ومدن عربية عديدة. وأتذكَّر نقاشاتنا في الحلقات الاستشارية لإعداد تقارير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
يحصل أحياناً أن تشعر بأن بعض من تعرفهم لم تجمعك بهم ندوة أو حلقة دراسية، بل إنك تعرفهم لأن بينك وبينهم خيوطٌ من الوصل والمودة، غير قابلة للترتيب الزمني، وأن تعارفكما حصل ضمن سياقاتٍ تتجاوز برتوكولات التعارف المألوفة. الأواصر المعرفية والسياسية القائمة بينكما، والهموم المشتركة التي تجمعكما قبل حصول اللقاء، تُعَدُّ عنوان تقارُبٍ وتفاهُمٍ لا يحتاج إلى توقيتٍ محدَّد، أو حلقة دراسية هنا وهناك، ذلك أن أسئلة لحظةٍ تاريخيةٍ بعينها تُعَدُّ الأساس الضامن لخيوط الوصل الجامعة.
لا نرتّب مواقفنا بقراراتٍ مسبقةٍ داخل المنتديات التي نلتقي لنشارك فيها، يبدي كل منا رأيه بالصورة التي يرى أنها أكثر وضوحاً وإقناعاً، ويحصل نوعٌ من الإسناد المتبادل الذي يتوخَّى بناء موقفٍ أو ترميم آخر، ليحصل، في سياق الحوار المركَّب، تطوير النظر في القضايا موضوع التداوُل والنقاش، وبهذه الطريقة بالذات، نشأت صداقتنا المعرفية واشتد عودها.
لم تَرُقْنِي أحواله الصحية في السنوات الأخيرة عندما كنت ألتقي به في الدوحة مشاركاً في لقاءات المركز العربي، إلا أنني انتبهت إلى حرصه على أن يكون كما عهدته مبتسماً هادئاً واضحاً، ومتطلِّعاً بشوق وتفاؤُلٍ إلى غد عربي أفضل.

امتلك محمود عبد الفضيل، فيما امتلك من الفضائل العلمية، فضيلة الوضوح في الرأي والموقف، ولا أعتقد أنها فضيلة متاحَة للجميع في فضاءات المنتديات واللقاءات العلمية. كان اقتصادياً كبيراً، وحرص على تكوين أجيالٍ من الباحثين، وعلى تَوَجُّهٍ في النظر إلى الاقتصاد السياسي، يراه الأنسب لوضع المجتمعات العربية. وضمن هذا المنظور، عَمِل على نقد المؤسسات المالية الدولية، ونقد المفاهيم التي ترتبط بها وترتبط بمصالح من يحتكرون إدارتها وتوجيهها.
كنت دائماً أتساءل عن السر في وضوح مواقفه وملاحظاته وأسئلته، عند مشاركتنا في ندواتٍ ولقاءاتٍ علمية، صحيح أنني كنت على بيِّنةٍ من درايتِه بجوانب عديدة من إشكالات الاقتصاد السياسي، وأنه اشتغل في مؤسسات اقتصادية دولية، كما درَّس سنواتٍ عديدة العلوم الاقتصادية في الجامعة المصرية، وتمتَّع عبر مساره الحافل بالعطاء بكثير من الدقة والوضوح في أبحاثه ودراساته ومواقفه، إلا أن ما أشرت إليه من معطياتٍ لم يكن كافياً، في نظري، لتوضيح كَفَاءَتَيْ الوضوح والإقناع اللتين كان يتمتع بهما.
كلما تعمَّقت وتطوَّرت معرفتي به، ازداد سؤالي عن السِّر في الوضوح الذي تمتعت به أعماله ومواقفه، وقد استرجعت، وأنا أقرأ نعيه، لحظاتٍ من الاستماع إليه محاضراً في مقر المجلس القومي للثقافة العربية في الرباط، منتصف التسعينيات، عن مشروع الشرق الأوسط الكبير، حيث حاول إبراز المسكوت عنه في المفهوم الذي تَمّ التلويح به منذ سنوات خلت لمحاصرة الطموح العربي في التحرُّر والتقدُّم. وقد أدركت، في تقديمه محاور محاضرته، إن وضوحه القوي يرتبط بالأهداف التي عمل طوال حياته من أجلها، باحثاً ومثقفاً ملتزماً بالشأن العام في وطنه الصغير، وفي الوطن العربي الكبير، ومن دون إغفال انحيازه لحاضر المستضعفين في كل مكان. وقد كشف نقده رأسمالية المحاسيب عمق التفاوت والتناقض الطبقيين في مصر، كما أبرز روح خياراته في الفكر، وفي تحقيق المشروع النهضوي العربي.
كان محمود عبد الفضيل يُفْصِحُ ولا يَتَعَالَم، يصوِّب نظره نحو روح ما يريد بلوغه ولا يتردَّد، يصارع بكثيرٍ من النعومة، ولا يجامل. يتغنَّى متشبثاً بكل جميل، لا يركب البكائيات والأحزان، يحلم بالفجر القادم ويجتهد لتهييء ما يُمَكِّنُ من اقتراب وصوله، حاملاً أشعة الضوء والشمس، وناشراً ضياءه الكاسح في الأرض العربية.
عاش مبتسماً متفائلاً حالماً، وامتلك، بجوار الصفات التي ذكرنا، ميزة الوضوح، بحكم أنه كان مقتنعاً بأن قوة المعرفة لا تكون إلا بوضوحها وأدوارها في تقدُّم المجتمع وتقدُّم الإنسان.

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".