سؤال الدولة الموريتانية

سؤال الدولة الموريتانية

07 مارس 2017
+ الخط -
لم يكن المجال الموريتاني يوماً ما خاضعاً لسلطة مركزية، على الرغم من تداول الأيام والسنين، وإن ظل، مثل حال مجتمعات مماثلة في النمط والسلوك، يسيّر أحواله وفق مقاس النازل والمستجد الذي يحتاج حكما أو قولا يقتضي تجاوزه في لحظته تلك التي أنتجته، وسياقه الذي انبثق عنه.
تلك إشكالية ليست طارئة، على الأقل في شموليتها وطرحها العام، وإن كانت جديدةً على مستوى التناول ودراسة التراكم المعرفي الذي أنتجته على مستويات العقليات، وما تركت من آثار في مستوى التفكير السلطوي الآسر بطبعه للنخب المعرفية، والمنتجة مؤلفاتٍ كثيرة، في إطارها العام التنظيري، حتى لا أقول الفلسفي، بشأنه. فالمنتج المحلي في هذا المجال كان إفرازا ونتيجة منطقية لنوع من التقية الممارسة في ثوب الشرعية، المتاحة في ظل عدم وجود الإمام الجامع للأمة، وما يترتب عليه من أحكام شرعية، ومقتضيات تقتضي النظر في ترتيب الأولويات والنظر في المقاصد المنضوية عليه.
لذا، ليس مبحث الدولة في السياق الموريتاني مستجداً، على الأقل من الناحية النظرية في المباحث الفقهية والنوازلية، وإن كان جديدا على مستوى الطرح والتفاعل حين التأسيس، فلم يكن المشروع الوليد، في ستينيات القرن الماضي، قد وجد الأرضية الملائمة لانسيابيته وتحركه لإقامة نموذجٍ يعتمد على مقاربات شمولية، تستدعى المفاهيم المعاصرة، من قبيل "الدولة" و"الحقوق المدنية" في مجتمع يتسم بالبعد القبلي والمناطقي حين الضرورة والأزمات، لتوظف الأيام والأنساب وفق قوالب تستدعي الضمير الأهلي، ضمن إطار بنيوي عميق، لمجموعة من العلاقات الوظائفية والمصالح المتجسّدة في نظامٍ متبعٍ من أبناء القبيلة، دفعا عن المشروعية التاريخية والاجتماعية.

ولمّا كانت الدولة الحديثة، في معطياتها الطبيعية، هي إعادة استثمار لمصطلحات ومفاهيم أعدت مسبقاً لمجتمعات مخالفة في الملة والعقائد، وهي استنساخٌ للمشروع الغربي بمفهومه الواسع، بما يضع من شروط مخالفة للنموذج الإسلامي، ثارت أقلام المفكرين والباحثين في العالم العربي حول أي الوسائل أنسب لإعادة أنمذجته في إطار الدول المستحدثة وحديثة العهد بالاستقلال، والحق أن هذا الإشكال ظل عويصا على التطبيق، بما يتناسب مع الملل والنحل الموجودة في هذا الفضاء، على الرغم من ترتيب الأولويات لكل سياق جغرافي معين. وهو أمر وضع أسئلة كثيرة بشأن هذه الكيانات الوليدة، خصوصا في مسارها الطبيعي الذي يجب أن تنتهج، فلا النموذج الخلافي أمر أعدت له الأسباب الوجيهة لقيامه، نظرا لأسباب التفرقة والتفرد في الحكم، ولا النموذج الآخر الغربي حائز على القبول لعلمنة الدولة من جهة وابتعادها عن الدين، فالدولة الغربية هي نتاج لصراع مرير مع السلطة الكنسية وتحالف الأرستقراطية معها.
من هذا المنظور، تشكلت المعضلة الحقيقية والاختلافات الجذرية في تبني المنطلقات والمسارات الموحدة والسياقات الشاملة لها بين المجالين، مما غاب عنه إمكانية التأسيس لنموذج جامع بين الخيارين، وإن كان على حساب الآخر المغلوب على أمره، أو المختلف عن الآخر في مساره، وتشكل أنماط حكمه، وهو ما نتج عنه سيلٌ من المتناقضات.
وليس المعنى، هنا، ضرورة الدولة في معناها اللغوي الآسر والمعروف في المعاجم العربية، حين تداوله وإظهاره، لأن الأمر لا يتعلق هنا بمسألة التداول، بقدر ما هي أنماط في الحكم وسياسة للرعية، مكتملة العناصر والأدوات للتسيير وإظهار المواقف. كما أن المفهوم المعالج هنا كان نتيجة لفلسفة تنويرية وصراعات مريرة، أنتجتها وأفرزتها، وأثرت في مسارها بشكل بنيوي بطيء، لتستقر على شكلها النهائي في القرن التاسع عشر، بعدما حددت الهويات والأقاليم والمعايير التي تحكم وفقها الرعية وتساس بها الأمور.
ولعل أكثر هذه القضايا تعقيداً وبروزاً إشكالية عدم الاستعداد الشعبي الجارف للانخراط في إطار الكيان الجديد، لتغليب مصلحة الجماعة، بما تتيح من منافع دنيوية آنية، تجعل المرء منسجما في فضائه السمح، وفق قوالب متأسّسة على معطيات شرعية، تغلب مفهوم الجماعة، وتجعل الخارج عن النسق في منزلة الفساق والمارقين.
ولا تبدو الفكرة هنا نشازاً في مسارها، عندما تبني على مصطلحات شرعية، من قبيل يد الله مع الجماعة، ومن فرق يد الجماعة فقد باء بإثم عظيم، ومن الطبيعي جدا أن التحوير وأيدي الاجتهادات البشرية قد مست كثيرا هذه النصوص، وجعلتها على مقاسٍ من الأرض السائبة، أو التي لا سلطان فيها. بالتالي، الجماعة هنا تعني الثلاثة بدءا وانتهاء إلى مجال جغرافي معين بذاته، مفرغة من محتواها الطبيعي والآسر في الثقافة العربية الإسلامية.
وعلى الرغم من أن الدولة الموريتانية، في مسارها الاستقلالي، حاولت التغلب، قدر الإمكان، على هذه العلاقة، بإيجاد مسار تنموي وتثقيفي، يجعل للعلاقات العشائرية بدائل نفعية وأساليب في المقابل ردعية، تحتم اللجوء إلى الدولة، بوصفها المؤطر والموجه للخيارات الشعبية الجارفة، والداعم لها حين الأزمات، إلا أن دور السلطة القبلية ظل نافذا ومقيدا لمشاريع تنموية كثيرة، مما تكثر دواعيه وتتشعب، فلم تكن المطالب المتكرّرة استدعاء لمطلب اجتماعي، ولا هي استكناه لمشروع مستقبلي في إطار وأد الكيانات الموازية ليس بقرار رسمي، بطبيعة الحال، وإن كانت بوضع البدائل الكفيلة بذلك.
ولا يبدو الاقتناع كافيا بمسار الدولة، ولا تراكميتها التي تشكلت وفقها، وما خطت لنفسها من نفس مخالفٍ ما كان سائدا من علاقات وتحالفات تطبعها العشائرية المستهلكة في المحيط، منذ قرون تتوارث وتتشكل وفق اللحظات المادية التي تنتجها، وتؤثر في مسارها.
ولم يكن المعطى الوظيفي الساعي إلى إيجاد بنية وظائفية، تحتم نوعا من التراتبية الجديدة تجاوزا للأنساق القديمة، وهدما لها، هو أمر ذو بال في تحول العقليات وأنماط تفكيرها، بل سرعان ما وئد لتبقى القوانين في حكم العالق الذي لا يحكم به، ولا يؤثر في بنية الدولة وتشكلها.

ولا يظهر النظام الحزبي مقنعاً في تحركاته، لإسقاط التابوهات القديمة، بقدر ما كان إظهارا لها، واعتماداً عليها، حين المواسم الانتخابية، أو المنافع التي يتحصل عليها وفق قوالب حتمتها المعاصرة والتحالفات والقوانين الدولية، فقد ظلت الأدوات نفسها المطبقة في عدم التفاعل مع الظاهرة الحزبية المعاصرة، بوصفها الأداة التعبيرية التي يمكن من خلالها حل المشكلات ووضع السياسات المستقبلية للمشروع، وحمايته من كل المحدقات والعوارض التي قد تعترضه.
ولعل المسألة الأكثر تعقيدا، والتي تظهر مقلقة، هي عدم حسم الهوية في شكل معين لتعدد الهويات والأفكار حول نشأة الدولة، وحتى حول تواريخها المؤسسة لها، وهو أمر بالغ الخطورة، في عدم وجود توافق على الثوابت، ولنغض الطرف قليلا عن التحليل أو المقاربة التي يود قارئ ما أو كاتب تحليل المجتمع وفقها، إلا أن الأكيد هنا هو عدم وجودها في توافق معين مكتوب، أو ضمني، ما تكثر معه الأقاويل والأحاديث والتواريخ الأهلية المحلية المنشورة والمتداولة، والحق أن هذه الظاهرة يجب الانتباه إليها، خصوصا في المجتمعات القبلية المستلهمة تواريخها والمكونة وفقها الباحثين والمؤلفين والأدباء، ما يتنافى وعصرنة الدولة، وقيامها على أسس معينة، يتفق حولها الجميع، ويتفانى فيها، خصوصا في المجتمع المتعدد والمتنوع، ما يثير خصوبة وآراء مختلفة، قد تكون منبعا للتواصل وإيجاد أساس متين، إذا ما روعيت الأسباب الكفيلة بخلقه، في جو من التعدّد الذي لا يفسد للود قضية، بقدر ما ينتج مجتمعا ناضجا منسجما، يتجاوز تواريخه الظلامية إلى تواريخ أكثر إنصافا وواقعية.
والحق هنا أن النظر في المظالم التاريخية والوقائع الفئوية التي أنتجته يحتاج إلى مقاربات سريعة، تبنى على رؤية ناضجة، ترعاها النخبة المثقفة جميعا من خلال المؤتمرات والندوات، وإيجاد الوسائل الردعية والنفعية في الآن نفسه. ولعل التعليم يبدو هنا أكثر المطالب الملحة وسريعة الأخذ بها، بدون تفرقة ولا حساسيات آنية قد تكون أفسدت سياساتٍ كثيرة، أنتجت في هذا المجال، ما زاد الطين بلة، وعقد حلول قضايا لتعدد الفاعلين والمؤثرين في مسارها. وهو ما أحدث، حسب نظرنا، مقاربات جديدة استدعت الرجوع إلى الأنماط القديمة، وتكيفها مع الواقع الجديد، حين التكفل بالإنسان وقضاياه في مجتمعه الضيق، والرجوع إليه حين الأزمات والقلاقل، مهما كان نوعها أو طبيعة حلها.
لذا، فإن مطلب الدولة، المتصالحة مع تاريخها، الناظرة بشكل مشرق إلى أيامها المستقبلية، تحتاج إلى مراجعات متأنية كثيرة في مسارها الذي تشكلت وفقه بدون غبن، ولا إقصاء لأي رأي، مهما كان نوعه ونشازه، لترسو الأماني والأحلام، بشكل هادئ، بعيدا عن الأجواء المتلاطمة والمهاترات اللحظية.
0544473A-FA90-4A5D-B823-7C17EC6BBAE9
0544473A-FA90-4A5D-B823-7C17EC6BBAE9
باب أحمد الشيخ سيديا

كاتب موريتاني وأستاذ في جامعة نواكشوط

باب أحمد الشيخ سيديا