"الخوذ البيضاء" وثرثرات حاقدة

"الخوذ البيضاء" وثرثرات حاقدة

06 مارس 2017
+ الخط -
العلامة الرئيسية للعيش في سورية هي التخوين. أنت خائن، أنت خائنة، عبارتان تُقالان ببساطة مراراً في اليوم بين معظم السوريين، والعذر الوحيد الذي أجده لشعبي المُروّع أنه، في تعامله مع بعضه بعضا، واستسهال إلقاء التُهم على الآخر، يعكس تعامل النظام، وتحديداً كل فروع الأجهزة الأمنية مع المواطن السوري، فشعار تعامل تلك الأجهزة الأمنية مع المواطن السوري: أنت مُتهم حتى يثبت العكس. وهكذا، يشعر كل سوري أن عليه في كل موقف، وحتى في كل كلمة ينطقها، أن يُقدم براءة ذمة للنظام وأجهزته الأمنية. ويفسر ظاهرة "التماهي مع المعتدي"، في علم النفس، أن الشعب السوري المُروّع من قبضة الأمن يجد نفسه، في أحيان كثيرة، يتماهى مع سلوك النظام ويتبناه، بل يقلده. وكم من شبان في اللاذقية هم ضحايا ومظلومون كانوا يقلدون تصرفات الزعران الذين لا يطاولهم القانون. وقد أبدع مصطفى حجازي في كتابيه "سيكولوجية الإنسان المقهور" و"سيكولوجية الإنسان المهدور" في وصف حالة التماهي مع المعتدي.
وبكل أسى وأسف، أجدني مضطرة لنقل رأي سوريين كثيرين مُتماهين مع النظام، بشأن الفيلم الوثائقي "الخوذ البيضاء" الذي حصل، أخيرا، على جائزة أوسكار، للمخرج أورلاندو فون إينسيدل، وللمصور السوري من حلب رائد صلاح، ولمدير الدفاع المدني خالد الخطيب. الفيلم رائع، إذ يصور معاناة المسعفين السوريين العزل وانتشالهم من تحت الأنقاض، وإنقاذهم في أثناء قصف الطيران الروسي، وقد أنقذ أصحاب الخوذ البيضاء 82 ألف مدني، وتعرض بعضهم لإعاقات خطيرة. وثمّة عبارة في الفيلم تُلخص غايته، إن أنقذتم حياةً كأنكم أنقذتم العالم.
ولأن الجهل والتخلف والخوف إلى حد الذعر متلازمة تُطوّق سوريين كثيرين، حضرت على صفحات التواصل الاجتماعي مهزلة بسبب الفيلم، فقد أشاع بعضهم في "فيسبوك" أن مخرجه هو نجدت أنزور، فأخذ الموالون للنظام يمتدحون الفيلم، من دون أن يشاهده أي منهم. كما أن معارضين سارعوا إلى حذف ما كتبوه سابقاً، مُنتقدين وكارهين نجدت أنزور، وطرزوا مديحا رائعا له، معتقدين أنه مُخرج الفيلم. وبدا أن مواقف سوريين عديدين، موالين ومعارضين، ليست من صميم قناعاتهم، بل كما تُملي عليهم الجهات المُسيطرة عليهم. وقد شن أحد الضباط، وهو شاب، وأظن أنه أستاذ جامعي، حملة شتم ونقد على في "فيسبوك" لمجرد أنني أوضحت أن مخرج "الخوذ البيضاء" ليس أنزور، بل أورلاندو فون إينسييدل، ولم يخجل من أن يتهمني بالسطحية والكذب! وقد كتب أن أصحاب الخوذ البيضاء كانوا يرفعون علم "داعش" على رأس كل ضحية ينتشلونها من تحت الأنقاض. ولا يمر يوم إلا ويُتحفنا الضابط المذكور، عالي الرتبة، على صفحته، بصورة شهيد أو أكثر من شبان سورية في عمر الورود، ويبارك لأهلهم وللوطن موتهم، ويستعمل العبارات الخشبية المُنافقة المُقززة نفسها في تمجيد الشهادة! ولا أدري لم لا يهدي روحه وجسده للوطن، طالما أنه لا يُقدس في الحياة إلا الموت والشهادة.
كم هو مؤلم أن تجد نماذج حاقدة ومُضللة وجاهلة، والأهم أنها تمارس رُهاباً على الناس البسطاء، تشوه معاني رائعة، مثل التضحية والغيرية والشجاعة والشهامة، وتزوّر بوقاحة لا مثيل لها عملا إنسانيا رائعا، وتتهمه بالخيانة، كما استخدام هذا الضابط الحاقد المزور علم داعش.

دلالات

831AB4A8-7164-4B0F-9374-6D4D6D79B9EE
هيفاء بيطار

كاتبة وأديبة سورية