تمويه الفجيعة

تمويه الفجيعة

31 مارس 2017

والد باسل الأعرج يؤدي التحية لجثمانه (أنترنت)

+ الخط -
ظلت صورة والد باسل الأعرج المثيرة للإعجاب والمديح في جنازة ابنه المقتول برصاص الاحتلال الإسرائيلي، وهو يؤدي التحية العسكرية فوق نعشه، تنتابني وتدهمني بالسؤال عن معنى التحية العسكرية لشهيدٍ لم يكن عسكرياً من والد ليس عسكرياً، وأمام مشيعين ليسوا عسكريين. هل التحية العسكرية في مثل هذا المقام محاولة لإضفاء قيمة معنوية قصوى في إيجابيتها للشهيد لتأكيد (وإعلاء) المعنى الوطني الذي قُتل من أجله، أم أن هذه التحية هي الحجاب الذي يحجب الإحساس بفجيعة الفقد والتحايل على الحزن الطاغي الذي يحسّ به الأب الذي يفقد ابنه المحبوب؟ وأنظر إلى تفاصيل الجنازة في المشهد الآخر، حين راحت أم باسل، والنساء المشيعات، يزغردن، ما يوحي بتحول الجنازة إلى عرس يُزف فيه القتيل إلى مثواه. وأسال عن سر هذا الملاذ المملوء بالتناقض والاحتكاك الدامي ما بين الحزن والفرح في داخل النفس الواحدة.
غالباً ما يلجأ الإنسان في الفجائع عالية الأسى إلى سلوكياتٍ لا واعية، لحماية نفسه المكلومة من الانهيار، باتباع ما يناقض الفجائع من سلوكيات طبيعية وعفوية لدى كل إنسان، متوهماً أن الفجيعة تعطيه من الدفاعات ما يجعل هزيمته أمامها مستحيلة. وكثيراً ما يكون إعلاء القضية العامة التي مات من أجلها الفقيد إلى السمو يسمح للأحياء بالتماثل معها، وكأن حزنهم والتعبير عنه، بطريقة مفضوحة وعلنية، سيحمي هذه القضية العامة، ويحصّنها، ولكن الحقيقة المرّة التي لا يريد الإنسان الاعتراف بها، وهي جزء أساسي من الطبيعة الإنسانية، أنه يسعى إلى حماية نفسه من الانهيار والوجع الذي يتركه الفقد في روحه.
قبل 41 عاماً، قُتل أخي ذو التاسعة عشر في الهجوم الذي شنته قوات النظام السوري على مدينة صيدا. كنت رأيته حيّاً آخر مرة قبل أقل من 24 ساعة. جاء من يخبرني أنه قتل، وكان سؤالي لناقل الخبر: هل قاتل ضدهم؟ فقال نعم. في لحظة التماثل مع القضية العامة، والاحتيال على الحزن الشخصي المريع لمقتل أخي، شعرت بما يشبه العزاء لجواب ناقل الخبر. ظلّ هذا السؤال يؤرّقني كل هذه السنين، وظلّ وجه أخي، في آخر لقاء لنا، قابعاً هناك في المطرح المزدحم بالحزن الذي لا يقوى الزمن على محقه. كان حزني مريعاً، ذلك أنني كنت، في تلك السنوات، مسؤولاً عن العائلة في غياب والديّ وأخي الكبير في بلاد أخرى. كنت أنا الأب الذي أطلق ثلاثين طلقة من بندقية الكلاشنكوف تحيةً، وهو يوارى في الثرى، مثلما أدى أبو باسل الأعرج تحيته العسكرية، قبل دفن ابنه وغيابه الأبدي. هل علينا أن نخفي أحزاننا في لحظة انبثاقها، ونحن نودع أحبتنا، وهل على النساء أن يزغردن، وهن يودعن الحبيب في التراب. هل نلجأ إلى تعبيرات الفرح في لحظة ولادة الحزن، كمن يتناول عقاقير مسكّنة للألم، كي لا نبدو ضعفاء أمام مشهد الموت والفقد، أو أمام الجموع، كي لا تنهار إذا انهارت نفوسنا لفقدنا الشخصي.
بعد تلك السنين الطويلة على فجيعتي، استطعت أن أرى الأمور على غير ما كانت، ولم أعد أرى في زغاريد النساء سوى تحايلٍ على الألم، ولم أر في تحية والد باسل الأعرج سوى ميكانيزم داخلي ضد الفجيعة الشخصية، حتى ولو مدح الشعراء تلك التحية، ومدحها المدوّنون، وتغنى الكتاب بزغاريد النساء. وصرت أقرف من الأغاني التي تمجّد الموت في سبيل الوطن، فالأوطان تريدنا أن نحيا، وأن نحزن، حين نفقد أحبتنا، لأن الحزن المقيم في وجداننا هو الذي يصنع عزيمتنا للاستمرار من أجل الأوطان المظلومة. وكم أشعر بالخديعة، وأنا أسمع أغاني تتغزل بالأم التي فقدت ابنها، وتنتظره ميتاً، وهي التي يبدأ موتها بالزحف الخفي إلى جسدها وروحها، منذ تلك اللحظة التي ينهال فيها التراب على ولدها الحبيب.
8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.