حلايب في التراجيكوميديا المصرية السودانية

حلايب في التراجيكوميديا المصرية السودانية

04 مارس 2017
+ الخط -
يُتداول على الوسائط الاجتماعية هذه الأيام شريط فيديو يصور إحدى مشاركات مصر في مهرجان الجنادرية الذي انطلق في السعودية الشهر الماضي، وكانت مصر "ضيف الشرف" فيه. جاءت المشاركة المعنية من إقليم حلايب المتنازع عليه بين مصر والسودان. لكن اللافت أن الفرقة الموسيقية شاركت بأغنيةٍ قديمةٍ للمطرب السوداني الراحل سيد خليفة. وهكذا تثبت مصر، من دون أن تقصد، أن منطقة حلايب هي بالفعل سودانية.
ولكن الدرس الأبلغ من هذه الواقعة أن طرفي الخلاف لا يكادان يذكران البشر المتأثرين بهذا التنازع، فلا يشار إلى أن حلايب يسكنها أكثر من عشرين ألف مواطن، غالبيتهم من قبيلة البشاريين التي تنتمي إلى عرقية البجا في شرق السودان، ثم قبيلة العبابدة العربية. لم يستشر أيٌّ من الطرفين ساكني المنطقة حول مصيرهم، ولم يظهر اهتمام تأثير الصراع على حياتهم وروابطهم الأسرية. ويعود هذا إلى أن نظامي البلدين توأمان، من حيث قلة احتفالهما بمواطني بلديهما. ومن رمزية هذه اللامبالاة ما نراه في سيناء التي استعادتها مصر من إسرائيل (ولعل الأصح أن يقال إنها انضمت إليها تحت احتلال إسرائيلي "ذكي")، لتذيق أهلها من بأس نظامٍ المفترض فيه حمايتهم. رأينا الأمر نفسه في احتراب جنوب السودان الذي جعل أهله يطلبون الرحيل عن السودان، ومعهم أرضهم، وما شهدته وتشهده أقاليم دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق من احترابٍ أذاق بعض أهلها بأس بعض.
ولم تكن الحكومة هي الجهة التي يلجأ إليها الناس في سيناء، ولا دارفور، طلباً للحماية والإنصاف، لأنها مصدر البلاء. يكفي أن رئيسي البلدين رحبا برئاسة دونالد ترمب أميركا، خلفاً لأوباما الذي كان ينكّد عيشهما بالحديث عن حقوق الإنسان وكرامة المواطنين، فهما يفضلان رئيساً يشاركهما الكراهية لشعوبهما، ولا يحتفل بكم قتل وكم سجن، على رئيس يرقّ قلبه لمن عذب وأوذي، ويأمرهما بالمعروف وينهاهما عن المنكر.
ويبقى السؤال: إذا كان نظاما البلدين لا يحفلان كثيراً بمواطنيهما، فلماذا يريد كل منهما زيادة عدد رعاياه بضم أقاليم إضافية إليه؟ ألم يرحب مسؤولون سودانيون عديدون من قبل بانفصال
الجنوب، بل إنهم سعوا إليه بإصرارهم على سياساتٍ جعلت الانفصال حتمياً؟ هل أعرب المسؤولون عن أي انزعاجٍ، عندما تزايدت هجرة العقول، أخيرا، من السودان، بسبب الأزمة الاقتصادية وانسداد الأفق السياسي، أم أن بعضهم اعتبرها من باب "تصدير الكفاءات"؟ ألم يطالب أبواق النظام في مصر المواطنين بالهجرة، كما فعل عمرو أديب حين قال لمواطنيه (باسم الحكومة) "ماعندناش شغل، ماحدش ح يشغلك، مش ح نقدر نأكلكو، روحوا الأردن أو دبي أو السعودية، ما تقعدوش جوا مصر"، فكلا النظامين يريد بلداً خالياً من البشر.
تفجر الخلاف الحالي حول حلايب في عام 1992، حين منح السودان رخصةً لشركة كندية للتنقيب عن الغاز على ساحل البحر الأحمر قبالة الإقليم. عندها تذكّر نظام حسني مبارك أن حلايب مصرية، وبدأ في ترتيب خطةٍ لانتزاعها وضمها إلى المحافظة 27 في مصر، بعد أعوام قليلة من غزو صدام الكويت وإعلانها المحافظة التاسعة عشرة في العراق. ولكن مبارك لم يغز حلايب، وإنما "نشلها" في غفلةٍ من العالم، فقد بدأت القوات المصرية بتطويق الإقليم، وإغلاق حدوده مع السودان، كما ضربت حصاراً على مركز الشرطة في الإقليم والحامية الصغيرة، وكانت تسمح لرجال الشرطة والجنود بالخروج، ولا تسمح لهم بالعودة. وقد سبب هذا أزمة كبيرة، خصوصا لمن كان مريضاً أو فرضت عليه ضرورة اجتماعية أو أسرية الخروج. وقد استمر الحصار سبع سنوات، حتى اضطرت الحكومة السودانية لسحب الجنود ورجال الشرطة عام 2000، بعد أن أصبح وضعهم غير محتمل. عندها أعلنت مصر ضم حلايب، ووزعت على سكانها بطاقات هويةٍ مصرية، وقامت بتغيير نظام التعليم والنظام الإداري، تماماً كما يفعل حلفاؤهم في الأراضي المحتلة.
الملاحظ أن النظام السوداني لم يجتهد عملية "النشل" هذه، كما فعل أسلافه عام 1958،
بخلاف رفع شكوى إلى مجلس الأمن. والسبب أن الأدوار انقلبت. ففي 1958، حينما حاول عبد الناصر ضم الإقليم، كانت مصر معزولة دولياً، ما دفعها لتراجع سريع. أما في 1992، فقد كان النظام السوداني هو المعزول، عربياً وأفريقياً ودولياً. وفوق ذلك، كان عاجزاً عن الدفاع عن قضيةٍ لا جدال في عدالتها، ذلك أن الاستيلاء على أراضٍ متنازع عليها بالقوة أمر تجرّمه مواثيق الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي. ولو أن السودان أصر على مطالبته، لما وجدت هذه المنظمات مناصاً من تأييده وإدانة سلوك مصر، كما دين العراق وتدان إسرائيل. ولكن النظام السوداني كان يحارب وقتها في أكثر من معركة، بما في ذلك معركة مع المعارضة الشمالية، كان من أطرافها "مؤتمر البجا" الذي يدّعي تمثيل العرقيات الأهم من سكان حلايب، ويكرّر النداءات، هذه الأيام، من أجل إثارة القضية. ولكنه حينها كان يحارب النظام، ويلقى دعماً من دول الجوار، ومنها مصر.
مهما يكن، فإن النزاع حول حلايب عندي معركة في غير معترك، خصوصا من أنظمةٍ لا تحفل بالإنسان، لا في مصر ولا السودان. ومن شأن استمراره أن يسمّم العلاقات بين الشعبين بإثارة النعرات البغيضة واستثارة الغوغاء، على الرغم من كثرة الحديث عن وحدة الشعبين. ولو كانت هناك حكمة، فالواجب إعلان الإقليم منطقة تكاملٍ ووحدة بين الشعبين، وأن يكون مفتوحاً لمن شاء من البلدين، ومنطقة للتجارة الحرة بينهما. كذلك ينبغي منح مواطني المنطقة جنسية البلدين معاً، يختار بينهما. وهذا يجعل الإقليم محور تآلفٍ وتقاربٍ بين البلدين والشعبين، بدلاً من بؤرة نزاعٍ تهدّد بالتحول إلى سرطان قاتل.
822FB209-C508-489D-879A-A08F3BBC562D
822FB209-C508-489D-879A-A08F3BBC562D
عبد الوهاب الأفندي

أكاديمي سوداني، أستاذ العلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا. عمل بتدريس العلوم السياسية في بريطانيا منذ 1997، وكان قد عمل في الصحافة والدبلوماسية والطيران في السودان وبريطانيا. أحدث مؤلفاته "كوابيس الإبادة.. سرديات الخوف ومنطق العنف الشامل"

عبد الوهاب الأفندي