ريما خلف ضيف شرف قمة البحر الميت

ريما خلف ضيف شرف قمة البحر الميت

30 مارس 2017
+ الخط -
لو تمتع الوطن العربي بالحد الأدنى من امتلاكه قراره، لكان أول بند يُبحث في أجندة قمة البحر الميت، التي انفض سامرها أخيرا في الأردن، هو تلكما التقريران الخطيران اللذان أعدتهما لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا)، "الظلم في العالم العربي والطريق إلى العدل"، وقد أعد في يناير/ كانون الثاني 2017، و"ممارسات إسرائيل تجاه الشعب الفلسطيني ومسألة الفصل العنصري (الأبارتايد)"، الذي صدر في 15 مارس/ آذار الجاري، فهما أهم من أي بند آخر تبحثه أي قمة عربية، ليس لأنهما يحملان تشخيصا حقيقيا وعلميا للمأزق العربي فحسب، بل لأنهما أيضا يضربان في عمق الأزمة الوجودية للعرب، حكاما ومحكومين. وأنا على يقين أن ثمة قادة وزعماء عربا، لم "تتح لهم الفرصة !" لقراءة التقريرين، أو أحدهما، لأنهم يعيشون في دائرة مغلقة من المستشارين والحاشية، يرون الدنيا من الثقوب التي يفتحها لهم هؤلاء، ولو تسنّى لهم معرفة حقيقة ما جاء في التقريرين، وربما حصل مثل هذا الأمر ولو بشكل مختصر، لما تجرّأ أحد على الاقتراح بإدراجهما على أجندة قمتهم، لأسباب كثيرة جدا، أقلها أن التقريرين يشخصان الداء العضال الذي لا يريد أن ينتبه إليه أحدٌ من صناع القرار، فضلا عن أن الدواء المقترح قد يحتاج إلى تجرّع السم، أو ما يشبهه ممن يريد شفاء الوطن الكبير من جروحه المتعفنة.
حظي التقرير الثاني بضجةٍ كبيرة، في الإعلام ومحافل صنع القرار، لأنه يتعلق بالكيان الصهيوني مباشرة، وقد يكون لائحة اتهام تصلح لجلب هذا الكيان إلى محكمة الجنايات الدولية، لهذا حدث ما حدث له، بعد أن أعلنت الدكتورة ريما خلف هنيدي الأمين العام المساعد للأمم المتحدة والأمينة التنفيذية للجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا)، استقالتها من منصبها، جرّاء تنصل الأمم المتحدة من التقرير، وتفاصيل القصة معروفة، فقد نالت من البحث والتعليق والتحليل ما لم ينله التقرير الأول، وهو مدار بحث هذه السطور، ولا يمكن أن يتحدّث أحد عن التقرير الثاني، من دون أن يقرنه بالأول، فهما وحدة واحدة، وتشخيص واف للمرض العربي العضال.
ريما خلف، بسبب رئاستها "إسكوا"، وتكليفها كوكبة من الخبراء العرب، لكتابة تقرير الاستبداد 
العربي، كانت تستحق أن تكون ضيف الشرف المحتفى به، في قمة العرب في البحر الميت، لو كانت ثمة نية حقيقية بالبحث عن مخرج لأزمة العرب المستعصية، ولكانت قمة البحر الميت تاريخية بكل المقاييس، ولكانت أعادت لمؤسسة القمة شيئا من شرعيتها، وشرعية من يحضرها، ولكانت أيضا بداية لعصر عربي جديد من النهوض، ولكانت أخيرا شكلت ميلادا جديدا لهذه الأمة، ذلك أن تقرير الاستبداد، وما تضمنه من وصف للداء والدواء، كان سيقلب كل الموازين المائلة، لو أخذ مكانته اللائقة به في أجندة الربابنة الذين يجلسون خلف مقود سفينة تحمل أكثر من 370 مليون إنسان.
تم وضع تقرير "الظلم في العالم العربي والطريق إلى العدل" على موقع الأمم المتحدة يوم 30 ديسمبر/ كانون الأول من العام الماضي، لكن تم سحبه بعد ساعات، ويقال إن الأمين العام السابق للأمم المتحدة، بان كي مون، هو من وافق على وضعه في آخر 24 ساعة له في المنصب، أما الذي قرّر سحبه، أو نصح بسحبه، فهو الأمين العام الجديد أنطونيو غوتيريس، "لكيلا يبدأ دورته الأولى، وهو في حالة مواجهة مع إسرائيل، وعدد من الدول العربية"، على حد تعبير ما ورد في تقارير صحافية، ذكرت أن إنجاز التقرير استغرق أكثر من عام تحت إشراف ريما خلف، وشارك في كتابته خبراء ومختصون، منهم فهمي هويدي ورغيد الصلح وشفيق الغبرا ورضوان السيد ومحمد المرزوقي ومحمد المسفر وحازم حسني وهيثم مناع وكلوفيس مقصود وهيفاء زنكنة ومها الخطيب وراجية عمران وحسام بهجت، وهو من ثمانية فصول وتمهيد وملحقات وهوامش عديدة، وتصل صفحاته إلى 324 صفحة. وخصص الفصل الرابع لإسرائيل والفلسطينيين، بينما يضم الثامن البيان الختامي الذي كتبته مجموعة من الناشطين من العالم العربي، وآثرت "إسكوا" ألا تضع أسماءهم عليه، حماية لهم من بطش الأنظمة العربية.
ومن ملامح التقرير، بحسب بعض ما نشر عنه في غير مكان، أنه خصص فصلا عن الآثار السلبية لقيام دولة إسرائيل، والحروب التي شنتها والدمار الذي ألحقته بالفلسطينيين، خصوصا تشريدهم إلى لاجئين، بما يشبه التطهير العرقي. ووصف التقرير إسرائيل بدولة أبارتهايد، ونقد فكرة الدولة اليهودية، والحديث عن الظلم الواقع على الفلسطينيين منذ نكبة 1948 وليس ابتداء من 1967 فحسب. وتحدث التقرير عن التمييز الذي يلحق بالفلسطينيين داخل إسرائيل والقوانين العنصرية التي تزيد عن 40 قانونا يستهدفهم لكونهم ليسوا يهودا.
ويصف التقرير ما حدث في مصر بالانقلاب، كما أشار إلى عدد ضحايا مذبحة ميدان رابعة العدوية، كما وردت في الأرقام الرسمية أو غير الرسمية المعتمدة من مجلس حقوق الإنسان القومي المصري. وحمّل النظام السوري وحده المسؤولية الكاملة عن القتل والخراب الذي حل بسورية. وأورد أن النخب الحليفة للقوى الاستعمارية قمعت الشعوب خوفاً من النزعات الاستقلالية. ويتفق كتاب التقرير على أن جوهر المشكلة يكمن في الظلم أولا. والظلم يقع على الأفراد والنخب والشعوب، ويمارسه الحكام وأدواتهم القمعية، بالإضافة إلى قوى أجنبية تعودت على أن تستبيح المنطقة بلا رادع، حيث أنتج هذا الظلم المزدوج مجموعات ظلامية إجرامية، ما كان يمكن أن تنشأ لولا انتشار الظلم واستفحاله.
أما الحلول التي اقترحها كتاب التقرير فتتلخص في أنه لا خروج من الأزمة الوجودية التي
يعيشها العالم العربي إلا بدرء الظلم واجتثاثه من الجذور. ويجب وأد الفتنة الطائفية من جذورها التي باتت تهدد وجوديا العالم العربي برمته. ويجب التوصل بين النخب الحاكمة والشعوب المقهورة إلى عقد اجتماعي جديد، يحقق أكبر قدر من العدل للمواطنين كافة، من دون الالتفات إلى الجنس أو الدين أو العرق أو الموقع الاجتماعي. وأن غالبية الدول العربية مبتلاة بالفساد والاستبداد، وكلاهما يغذّي الآخر على حساب الصالح العام، وهذا الداء يجب أن ينتهي. وأن النخب العربية الحاكمة قلقة جدا بسبب غياب الشرعية التي تستند إليها في أنظمة الحكم، وهذا يدفعها إلى المبالغة في القمع وتضييق مساحة الحريات العامة. ويجب القيام وبسرعة بإصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية وعسكرية. ويجب كذلك إقامة علاقات جيدة مع دول الجوار والتكتلات الإقليمية.
ويرى التقرير، في النهاية، أن تحقيق الاستقرار ممكن، على الرغم من صعوبته، ولكنه يتطلب تغييرا جذريا في البنية السياسية والاقتصادية، والعمل مجتمعين على إنهاء الحروب الأهلية، وبناء أوطان تساوي بين جميع مواطنيها، من دون تمييز قائم على الدين أو العرق أو الجنس.
ويخلص كتاب التقرير الذين نشروه بأسمائهم، لا باسم "إسكوا"، إلى أنه ما لم يتم معالجة ما يعانيه الوطن العربي، فهو مهدّد بحصول ثورة دموية أشد مما حصل إبان ثورات الربيع العربي، وهذا ما لا يريد سماعه، أو الاعتراف به، أحدٌ من صناع القرار العرب، معتمدين جازمين على قناعةٍ تقول إن معالجة ما ينتجه الاستبداد يكون بمزيد من الاستبداد، لا بإزالة أسبابه.