الطلاق البريطاني.. أي تبعات؟

الطلاق البريطاني.. أي تبعات؟

29 مارس 2017
+ الخط -
قرّر البريطانيون، في يونيو/حزيران الماضي، الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، بعد علاقة دامت 44 عاما. واليوم 29 من مارس/آذار الحالي، تعتزم الحكومة البريطانية البدء في إجراءات الطلاق، بعد أن حصلت على موافقة البرلمان، حيث سترسل رئيسة الوزراء، تيريزا ماي، إخطارا إلى الاتحاد الأوروبي برغبة بلادها في الانفصال. وهو إخطار لن يكون طويلا أو مفصلا، فسوف يقتصر على طلب تفعيل المادة 50 من معاهدة الاتحاد الأوروبي، والتي تحدد إجراءات طلب أعضاء الاتحاد الانفصال عنه، من دون أن تحدّد تبعات الانفصال، ولا شكل العلاقة بين الطرفين، بعد وقوع الطلاق، فلن يترتب على تفعيل المادة 50 سوى البدء في إجراءات الانفصال، وتحديد عامين لإتمامها.
خلال عامين، سيتحتم على بريطانيا والاتحاد الأوروبي الاتفاق على تفاصيل الطلاق، والتي تتضمن قضيتين رئيستين، حسم القضايا العالقة بين الطرفين، كالالتزامات المالية المشتركة، وتحديد طبيعة العلاقة بينهما بعد الانفصال، وفي مقدمتها العلاقات الاقتصادية والتجارية.
خلال العامين المقبلين، ستبقى بريطانيا كالمعلقة، فهي مازالت عضواً في الاتحاد الأوروبي، لا يحق لها مثلا أن تبرم منفردة اتفاقات تجارة مع دول خارج الاتحاد، ولكنها، في الوقت نفسه، لم تعد دولة كاملة العضوية في الاتحاد، يحق لها المشاركة في اتخاذ كل قراراته، خصوصا فيما يتعلق بالقضايا المتعلقة بمفاوضات انفصالها عنه.
وتمثل مهلة العامين لإتمام إجراءات الانفصال ضغطا شديدا على بريطانيا، لكونها ملزمة قانونيا من ناحية، ولكونها لا تشترط التوصل إلى اتفاق مستقبلي، يحدّد العلاقة بين الطرفين شرطاً لوقوع الطلاق، من ناحية أخرى. بمعنى آخر، ستصبح بريطانيا في مارس/آذار 2019 دولة غريبة عن الاتحاد الأوروبي، بغض النظر عن قدرة الطرفين على التوصل إلى اتفاق يحدّد شروط الانفصال، أو العلاقة بعده.
وللأسف، يصعب تمديد فترة العامين، حيث يتطلب تمديدها موافقة جميع دول الاتحاد الأوروبي السبعة والعشرين، في حين تتطلب الموافقة على شروط الانفصال أغلبية الثلثين تقريبا فقط،
وهذا يعني أن الحصول على موافقة الاتحاد على شروط انفصال بريطانيا عنه أسهل بكثير من الحصول على موافقته على تمديد فترة التفاوض مع المملكة، وكأن الاتحاد الأوروبي حريص على ألا تدوم علاقته بطرفٍ، يريد الانفصال عنه، حتى لا يمنحه فرصة التقاط أنفاسه، إذا ما قرّر المغادرة.
ويدور جدل كبير داخل بريطانيا حول قدرة المملكة على إكمال التفاوض خلال المدة المذكورة، خصوصا أن العامين سيتم اختصارهما واقعيا إلى عام ونصف العام، حيث سيتحتم على بريطانيا التوصل إلى اتفاق يحدّد شروط الانفصال قبل سبتمبر/أيلول 2018، حتى تمنح الفرصة لسلطات الطرفين (كالبرلمان البريطاني ومؤسسات الاتحاد الأوروبي) للموافقة على الاتفاق، وإقراره قبل مارس/آذار 2019، وإلا خرجت بريطانيا من الاتحاد بلا اتفاقية، وهي في حاجة لاتفاقيتين، لشروط الانفصال ولطبيعة العلاقة بعده.
ويقول المسؤولون البريطانيون إنهم يريدون التفاوض على الأمرين سويا وفورا، في حين يريد مسؤولو الاتحاد الأوروبي التفاوض على شروط الانفصال أولا، وترك التفاوض على شروط العلاقة المستقبلية لما بعد، كما يقولون إن بريطانيا مدينة لهم بحولي 60 مليار دولار، هي حصيلة نصيبها من ديون والتزامات متراكمة، وهي أرقام يرفضها البريطانيون الذين يريدون التركيز على المستقبل، وخصوصا على قدرتهم على التجارة مع أوروبا، وفقا للشروط الحالية نفسها، والتي لا تضع أي حدود تجارية بين الطرفين، مع قدرتهم على وقف تدفق المهاجرين الأوروبيين إلى بريطانيا.
ولا أحد يعلم بالضبط كيف ستسير المفاوضات بين الطرفين، فما يحدث غير مسبوق تاريخيا، ويتوقع البريطانيون أن يهيمن الانفصال وقضاياه على أجندة ساستهم بشكل شبه كلي، خلال العامين المقبلين، وأن يشغلهم عن القضايا الداخلية، مثل الصحة والتعليم والمرافق وغيرها، فالبرلمان والحكومة يستعدان لمهمة شاقة للغاية، تتمثل في التفاوض على فاتورة الطلاق، وعلى صورة العلاقة فيما بعده خلال عام ونصف العام فقط، كما يحتاج البريطانيون تعديل قوانينهم الداخلية، للتخلص من تأثير قوانين الاتحاد الأوروبي عليها، فبعد التقديم على الطلاق، سيقر البرلمان البريطاني كل قوانين الاتحاد الأوروبي التي خضعت لها بريطانيا خلال الأربعين سنة السابقة، كقوانين داخلية، حتى يتمكن فيما بعد من إقرارها وتبنيها، لو كانت صالحة لبريطانيا أو إبطالها والتخلص منها، وهي مهمة شاقة إضافية وملحة، تضاف إلى مهام البرلمان البريطاني، حيث يقدر عدد مواد تلك القوانين بالآلاف، على أقل تقدير.
وخلال الشهور التسعة الماضية، ومنذ إعلان نتيجة الاستفتاء البريطاني في 24 يونيو/حزيران 2016، بفوز معسكر الانفصال عن الاتحاد الأوروبي بنسبة حوالي 52% من الأصوات، 
والبريطانيون منقسمون على أنفسهم، بخصوص نتائج الاستفتاء وتبعاته، والتي يصعب التنبؤ بها، وقد أدى الاستفتاء إلى استقالة حكومة رئيس الوزراء السابق، ديفيد كاميرون، وصعود حكومة جديدة، برئاسة تيريزا ماي، والتي أسرعت إلى استحداث حقيبة وزارية جديدة لإدارة ملف الانفصال، يتولى رئاستها ديفيد دايفس، وهو من قادة معسكر الخروج من الاتحاد الأوروبي، كما فقدت العملة البريطانية حوالي 15% من قيمتها، ولكن هذا كله لا يقارن بما سيحدث في العامين المقبلين، فإجراءات الطلاق تبدأ اليوم (29 مارس/آذار الحالي)، ولن يكون أمام بريطانيا سوى عامين للحصول على اتفاق جديد، ينظم علاقتها مع الاتحاد الأوروبي، وإلا ستصبح كأي دولة أخرى، ما سيترك آثارا سلبية جسيمة على الاقتصاد البريطاني الذي حافظ على تماسكه خلال الشهور التسعة الأخيرة، بسبب زيادة الصادرات بعد تراجع سعر الجنيه الإسترليني، وبسبب إقبال البريطانيين على الاستهلاك والإنفاق بمعدلات ضخمة، وعدم تأثر سوق العقارات البريطاني.
ولكن، مع دخول عام 2017 بدأت مؤشرات سلبية في الصعود، حيث زاد التضخم لحوالي 2.5% بسبب تراجع الجنيه وزيادة فاتورة الاستيراد، كما تراجع استهلاك البريطانيين للعوامل نفسها، وزاد الحديث عن رغبة الشركات الدولية والأوروبية في البحث عن مقار جديدة لها خارج بريطانيا في الفترة المقبلة، خوفا من فقدان موظفيها الأوروبيين حق الحياة والعمل في بريطانيا بدون تأشيرة، كما هو معمول به حاليا في ظل قوانين الاتحاد الأوروبي.
كما أعلنت رئيسة حكومة اسكتلندا، نيكولا سترجين، رغبتها في إجراء استفتاء جديد على الاستقلال عن المملكة المتحدة في مارس/آذار 2018، بسبب رفض غالبية الاسكتلنديين الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، ويخشى الإيرلنديون الشماليون من تأثير الاتفاق على علاقتهم بجارتهم الجنوبية (جمهورية إيرلندا)، وما إذا كان الانفصال عن الاتحاد الأوروبي سيؤدي إلى عودة الحدود الصلبة بين شمال إيرلندا وجنوبها.
أما الشاغل الأكبر للبريطانيين فهو الاقتصاد، فهم يريدون الخروج من الاتحاد الأوروبي، لوقف تدفق المهاجرين بالأساس، لكنهم يريدون البقاء داخله للاستفادة من مزاياه الاقتصادية الكبيرة، وهو أمر يبدو مستحيلا، فلابد أن يؤدي خروجهم منه إلى خسائر اقتصادية، حيث سيحرص قادة الاتحاد الأوروبي على ذلك، حتى لا يشجعوا بقية دوله على الانفصال، خصوصا في ظل صعود حركات شعبوية معارضة للاتحاد في كثير من دوله.
فيما عدا ذلك، تعيش بريطانيا مدّا يمينيا واضحا، يتمثل في سيطرة واضحة لحزب المحافظين، في ظل تراجع نفوذ حزب العمال اليساري، وصعود حزب الاستقلال اليميني، والذي يؤجج مشاعر الوطنية الإنجليزية، ورفض المهاجرين، منكرا أن المد الوطني (القومي) الإنجليزي سيؤدي إلى مدد مشابهة في أوساط الاسكتلنديين والإيرلنديين الشماليين، ما يهدد وحدة المملكة المتحدة نفسها.