تناقضات المقدّس والعقلاني

تناقضات المقدّس والعقلاني

26 مارس 2017

العروي: مفهوم العقل عند كبار مفكرينا غير مكتمل

+ الخط -
لا تمثل العقلانية معطىً خارجياً أو ذهنياً، يقتصر على التعاطي مع الأفكار في حركتها المجرّدة، إنما هي منهجٌ يخترق مستويات الحياة كافة. وهي ليست كذلك في الحالة العربية، على الرغم من أنها خطابٌ يتكرّر في مجالات عديدة متفاوتة، محاولةً لتبرير أو تنظير خيار معين، لا يتصف بأيٍ من صفات العقلانية. وفي المقابل، على الخيار نفسه أن يجد تبريره بالاستعانة بالماضي، حيث يشكل الماضي قوة جذبٍ آسرة ليس للحاضر فحسب، بل للمستقبل أيضاً، مما يحد من الخيارات المطروحة لحل مشكلات الحاضر، والبحث عن مستقبل أفضل، فعلى الحاضر والمستقبل أن يبرّر نفسه أمام محكمة الماضي. وبسبب من ثقل هذا الماضي، يرتبك العرب أمام الخيارات المطروحة عليهم، كما يرتبكون أمام الزمن. وعلى الرغم من أن الحداثة كتجلٍّ للعقلانية هو المدخل الوحيد للعرب، للدخول إلى التاريخ من جديد، إلا أن هذا الخيار محاط بمجموعة كبيرة من المحرّمات التي تجعل العرب على مسافةٍ من التاريخ الفعلي الإنساني، وأسرى ماضٍ يبدو تجاوزه مستحيلاً.
تشكل العقلانية الأساس التحتي للنموذج الغربي الحداثي، وهي نمت ومرّت بأطوارٍ عديدة خلال تاريخها الغربي، منذ تكوّنها في إطار العلم بداية، ومن ثم خروجها من الدائرة الاختصاصية الضيقة إلى الدائرة الأوسع، المجتمع. فهي لم تبق محصورةً في إطار العلم المحض، بل وسّعت مجال عملها، ليشمل كل مجالات الحياة الإنسانية. وحافظت على مجموعة من الثوابت، كانت ناظم عملها وفعلها في التجربة الأوروبية. بمبادئ مثل وحدة الكون، ومبدأ الموضوعية، ومبدأ التقدم، وغيرها شكلت العقلانية مع الإصلاح الديني والحركة الإنسانية عامل هدم للمجتمع القديم وللماضي، هدم بناه وتصوره عن العالم، وهدم مفاهيمه وقيمه. أطاح الفكر العقلاني بالفكر الديني الغيبي الذي كان سائداً في أوروبا القرون الوسطى. ولم يقنع بإسقاط ما هو غيبي أو خارق للطبيعة من عالمه فحسب، بل وضع الإنسان نفسه محوراً داخل الطبيعة، ورأى أن على الإنسان أن يهدي نفسه بنفسه، وفق معايير الصواب والخطأ، حتى إن العقلانيين ذهبوا إلى أن هذه المعايير ثابتة ويقينية، وأن الناس اهتدوا إليها، ولم يصنعوها.
ارتبطت العقلانية في الفكر الغربي بالعلوم، لكنها لم تبق في إطار العلوم البحتة، فالثقة بقدرة 
العقل على فهم قوانين الطبيعة أدت إلى ثقةٍ مماثلةٍ في قدرة العقل على فهم قوانين المجتمع وقوانين تطوّره. وتحت توسع العقل المبادر، تم بناء علاقة جديدة بالواقع، تطوّرت جملة من الأفكار والمفاهيم تتعلق بعقلنة التنظيم المجتمعي. وتحت هذا التوسع، أعاد العقل بناء مفاهيم الحرية والعدالة والمساواة بناء جديداً، وكان مبادراً في طلب تحرّر الإنسان على جميع الأصعدة: التحرّر من القيود التي كان يرزح تحتها المجتمع، والتي تراكمت خلال العصور السالفة، التحرّر من الأشكال القديمة للنظم السياسية، والتحرّر اقتصادياً من أنماط الإنتاج العتيقة ومن وسائل الإنتاج المرتبطة بها، تحرّر العقل ذاته من قيوده اللاهوتية أو النظريات العلمية القديمة.
تطورت العقلانية داخل التاريخ، فلا عقل يهيمن من الخارج على تقدّم العلوم، فيحدّد انطلاقاً من مبادئ عقلية وضعت مسبقاً، وبصفة نهائية، مسار الحركة العلمية في مجموعها. العقل محايثٌ للتاريخ البشري في جميع مستوياته، ولا يمكننا فصله عن المجهودات التي ما انفكّ الإنسان يبذلها لفهم العالم الطبيعي والبشري. العقل يصنع ذاته ويحوّلها، وذلك عندما يصنع أدواته التقنية والوسائل العقلية التي يفهم عن طريقها الأشياء. إنه يبني ذاته، حينما يشيد مختلف مجالات المعرفة العلمية. هذا ما ولد تراكم منجزات العقلانية، وأدّى إلى انفجار المعرفة التي أخذت تحيل في مختلف الثقافات المعاصرة نحو التخصص العالي، وتجزئة المعرفة الإنسانية. وقد أصبحت العلاقة بين وحدة المعرفة وتجزئتها تشكل أزمةً ثقافية مستعصية.
الخلاصة التي نستطيع أن نخرج بها من تاريخ العقلانية في الغرب هي الارتباط والتأثير التبادلي بين العقلانية والبني الاجتماعية، فالعقلانية في الغرب نشأت نتيجة التغيير في البني الاجتماعية والاقتصادية، وهي أيضاً أثرت تأثيراً حاسماً في هذه البنى وعقلنتها، بحيث مسّت جميع مجالات الحياة.
هذا الارتباط التبادلي هو المفقود في تجربة العقلانية العربية، وهو أحد أهم أسباب التعثر في بروز العقلانية ناظما للمجتمع العربي، فالطروحات والمواقف العقلانية التي شهدها الفكر العربي، في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، عانت من التعثر، كونها تنطلق من تركيباتٍ أنتجها تاريخ المجتمعات الغربية، وحولت تلك التركيبات إلى حقائق علمية، يراد تجذيرها في تاريخ آخر، فكانت العقلانية الجديدة الوافدة على الفكر العربي غريبةً عنه. فوقفت أمام عائق كبير، ووقعت في المصيدة الأخطر، مقاومة الدين، الأمر الذي حال دون انتشار حركة تنوير.
مثّل الليبراليون والعقلانيون العرب أقليةً لم يكن لها وزن كبير في إيجاد تنوير عربي على 
غرار التجربة الأوروبية، فلم تستطع العقلانية الجاهزة اختراق المجتمع العربي وإيجاد الحامل البشري لقيمها، فقد اصطدمت بمجتمع يحمل تاريخا مثقلا بالمقدس الذي يخترق فكره وسلوكه. بذلك، لم تمتلك العقلانية العربية قاعدةً تحتية تحملها، كحركة واسعة من مختلف فئات الشعب، تخترق قيم العقلانية ومفاهيمها مختلف مرافق حياتهم.
كما أن مفهوم العقل وطريقة استخدام دعاة العقلانية له لم ينفكّ عن مفهومه التراثي، وبقي الأخير طاغيا على هذا الاستخدام، ما أفقد المفهوم دلالاته، وكما يشرح عبد الله العروي في كتابه "مفهوم العقل" "إن مفهوم العقل عند كبار مفكرينا حتى الأكثر تشبثاً به غير مكتمل، بالنظر إلى مفهوم آخر، يهيمن على البشرية جمعاء. فعندما نستعمل كلمة عقل، في حدود ثقافتنا التقليدية، نقول غير ما يقوله غيرنا اليوم، فلا يكون تجاوبٌ ولا تفاهم. نظن أننا نتكلم على بديهياتٍ، في حين أننا غارقون في المبهمات"، وأن استخدام أسلوب مختلف لا يعطي للمفهوم معنى جديدا. لذلك، يرى أن "ما كان يقال أمس بأسلوب الأزهر يعاد اليوم بأسلوب السوربون وأكسفورد". التناقض يقع حسب العروي بين "عقل الاسم" و"عقل الفعل"، وكل منهما لا ينتمي إلى السياق ذاته، وهذا التمييز ضروري لأن "العقل عقلان: أحدهما يهمّ الفكر وحده، مهما كانت المادة المعقولة، هدفه النظر في شروط التماسك والاتساق، الثاني يهمّ السلوك أو الفكرة المجسّدة في فعل، هدفه النظر في ظروف مطابقة الوسائل للأهداف المرسومة، أياً كانت. الأول عقل المطلق، عقل الكائنات المجرّدة، عقل الحدود والأسماء، عقل النطق والكون، والثاني عقل الواقعات، أفعال البشر المتجددة. يوجد فرقٌ جوهري بين من يميز ومن لا يميز بين هذين المفهومين، بل هنا تحل القطيعة الجوهرية بين القديم والحديث".
فإذا كان الشرط الأول لظهور الحركة العقلانية في أوروبا تدهور المقدس وتراجعه، فإن المد الديني الطاغي والمسيطر على كل مجالات الفكر والسلوك العربيين فرض نفسه على المحاولات العقلانية التي حاولت اختراق المجتمع العربي. وبقي مفهوم العقل، حتى في التجربة العربية الحديثة، كما كان سائداً في الثقافة العربية الإسلامية منذ تأسيسها، والذي يقوم على أن العقل هو الانقياد للأوامر الإلهية، وهو يُعنى بالسلوك الأخلاقي، وهذا ما تدّل عليه كلمة عقل في اللغة المعجمية العربية، أي أن العقل العربي ليس من مهمته معرفة القوانين الموضوعية، بقدر ما مهمته إدراك عظمة الخالق. بذلك افتقدت العقلانية حاملها في التكوين المجتمعي العربي الذي يرزح تحت مفاهيم التراث، ويتحكّم بسلوكه. فلم تستطع تشكيل حركة اجتماعية، إنما اقتصرت على دعواتٍ منفردة، ما زالت كذلك. فالمقدس يمنع مجالاتٍ عديدة عن الاستقلال وإعمال العقل بها، ويحافظ عليها مقيدةً، والعقلانية تمتنع عن العمل في ظل القيود، فلا عقلانية إلا إذا قبلنا أن تكون جميع الأسئلة مطروحةً على جدل مفتوح وعمومي، وليس هناك مقدّس ديني أو غير ديني، يمكننا أن نزعم باسمه إيقاف الجدل. وهذا ما لم يتوافر في التجربة العقلانية العربية.

دلالات

D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.