بيكاسو وجياكوميتي

بيكاسو وجياكوميتي

24 مارس 2017

بيكاسو بريشته وجياكومتي بريشته

+ الخط -
نعرفه بابلو بيكاسو، أقلّه من شهرته العريضة، أقصد نحن من نتذوّق التشكيل فحسب، أو حتى المتعلمين منا من غير المثقفين تماما، لكنه لا يشتهر عندنا مثّالا ونحّاتا. أما السويسري ألبرتو جياكوميتي فله اسمُه، غير أنه لا يحوز بيننا شهرة بيكاسو، وهو صاحب ضربات وعلامات في الابتكار الفني، في منحوتاته ورسماته. .. أمران يجمعان الاثنين، وهما من أهم فناني القرن العشرين، الأول أن مزاجيْهما اقتربا من بعضهما، بعدما التقيا، وتحاورا. والثاني أن متاحف قطر، بالتعاون مع مؤسسة جياكوميتي ومتحف بيكاسو الوطني، في باريس، جمعت أزيد من مائة وعشرين عملا لهما في معرضٍ واحد، في بادرةٍ فيها إبداعٌ وجمالٌ كثيران، فيها ارتحالٌ وعبورٌ إلى إيقاعاتٍ تداخلت وتناقضت، تلاقت وتباعدت، تشابكت وتحاورت، ذلك كله وغيره، من عوالم عالية النزوع إلى التجديد والتجاوز والخلق والإيحاء، اجتمع في هذا المعرض غير المسبوق في فكرته، والذي ينتظم، بما ضمّ من أعمالٍ اختيرت من غير مطرح، لأول مرة في العالم العربي. 

أن يكون بيكاسو جياكوميتي اسم المعرض، فذلك يعني أن لغياب واو العطف بينهما معنى بعيدا فيه، أي في المعرض الباهر، الأنيق، الذي يستنفر فيك رغبةً بتحسّس ما كان في مشاعر الفنّانيْن الكبيريْن ومداركهما، وهما يجرّبان ويغامران، وهما يتجدّدان، وهما يعبران من حداثةٍ التمساها إلى سوريالية انجذبا إليها، بعد مرورٍ أول في محطة التقليد، وصولا إلى خياراتٍ أخرى، ربما لا يجوز بشأنها تصنيف، كأنها فالتة، عندما يروق للفنان أن يشكّل فحسب، أن يمرّر خطاطاته، أو يجسّد نحتا يحتفل بالفراغ، بالرفيع المتحرّر من الثقيل والقوي والصلد.
تجول في المعرض، وقد تغفل عن أنه لاثنين، لا لواحدٍ، ولمّا تتذكّر، ترمي عينيك إلى الاسم وبطاقة العمل، رسماً كان أو خطاطةً أو منحوتةً، ذلك أن الأساليب على قرابةٍ بينها من دون تشابه، على ألفةٍ بينها من دون مماثلة، وأيضا على افتراقٍ كبير أحيانا. هذا "رجل أبولو" عند جياكوميتي، خطوطٌ خشبية، تتشكل منها هيئة رجل، أما "شخص" بيكاسو فأعمدة مستقيمة متداخلة وأقواس. أما الملهمات الحبيبات، فلوحة بيكاسو "دورا مار" (1937)، تنقل نظرة أسىً، وصفت بأنها نظرة معذّبة، كأن انفعالا مكتوما، جوانيّا نفسيا ما أرادت أن تنطق به اللوحة، وغيرها من تشخيصات بيكاسو موديله دورا مار بين عامي 1935 و1943، وهي عشيقته. على غير هذا الحال آنيت، ملهمة جياكوميتي التي صارت زوجته، في 1949. حضرت كائناً ينطق إيحاءً بالحياة والحرية في تماثيل منحوتةٍ من البرونز، وقد طالعنا أن آنيت لم تكن تمانع في أن تجلس أمامه ساعاتٍ طويلة. وفي تجوالك، تلحظ أن مقدارا من المحاكاة في لوحة بيكاسو "امرأة تلقي حجرا" مع نحت جياكوميتي "شيء كريه"، وكلاهما في 1931.
تحتاج إلى قسطٍ من الثقافة التي تعرّفك باتجاهات الفن الكبرى في أوروبا، في سنوات احتدام القلق في بحث تياراته عن المثال الأسمى لتعبير الإنسان في غضون لحظته الحضارية التي يطأها. تحتاج أن تعرف أن جياكوميتي (1901 - 1966)، وبيكاسو (1881- 1973)، التقيا ثانيةً، بعد انتهاء الحرب العالمية، وتبدّى لهما أن مغامرتهما باتجاه السوريالية اكتملت، أو انتهت، بعد أطياف الحداثة الأولى لديهما، وبعد محطة التكعيبية الجديدة التي استقر فيها بيكاسو، في العشرينيات خصوصا، وإقامة جياكوميتي في تجارب نحت "شخوص مسطحة الشكل"، فيعودان، إلى حدٍّ ما، إلى طورٍ واقعي، يلتفت إلى الحياة اليومية. وتحضر بعض السويداء عند بيكاسو، فيما البرونز القاسي يُسعف جياكوميتي في نحته شخوصا متعبة. ثم من البرونز، يصنع عمله "الكلب" نحيلا، قرأنا أنه استوحاه من كلبٍ أفغاني لدى بيكاسو. وفي 1950، ينجز بيكاسو عمله "معزة". ترى المنحوتتيْن، مع غيرهما من رسوم نباتاتٍ وحيوانات، ومنحوتاتٍ رفيعة لجياكوميتي، في آخر المعرض، قبل أن تودعه، وكلك أسئلةٌ عن ذلك الشغف الممتع بالبصري الحر اليقظ دائما، المفتوح على المحتمل والبعيد، كيف تملّك فنانيْن حلق اسماهما في فضاء الإبداع الفني الإنساني. وقد قال جياكوميتي عن بيكاسو: يدهشني أنه يدهشني بقوته... أما بيكاسو فقال إن النحت مع جياكوميتي هو ما يبقى، بعد أن ينسى العقل كل التفاصيل.
صنيعٌ فريدٌ ما أحدثته متاحف قطر في تنظيمها استضافة هذه الإضاءة الإنسانية الآتية من مطارح الفن العميق، في هذا المعرض في "مطافئ" بالدوحة.

دلالات

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.