خلاف سياسي أم ديني؟

خلاف سياسي أم ديني؟

21 مارس 2017
+ الخط -
عندما قرّرت منظمة مللي غوروش التركية أن تبني مسجداً في العاصمة الهولندية أمستردام، رفضت السلطات البلدية إعطاءها الإذن لإقامة جامع بمنارة طولها اثنان وأربعون متراً، كما جاء في التصاميم الهندسية، وأصرّت البلدية على ألا يتجاوز طول المنارة أربعة وثلاثين متراً. ثم اتفق الطرفان، بعد أحد عشر عاماً، أن يكون طول المئذنة أربعين متراً.
كان الخلاف موضعياً ومحدوداً بين سلطات بلدية وجهات طالبة للترخيص، ويمكن اعتباره مجرد خلاف عقاراتٍ وأنظمةٍ ومعايير بلدية، لكن الأمر هنا يتعلق بمئذنة مسجد امتد الخلاف بشأنها أكثر من عقد، وقد يكون الإصرار على "تقزيم" المنارة رمزاً معيناً لم تبتلعه المنظمة الإسلامية العتيقة التي أوجدها نجم الدين أربكان، وهي من المنظمات الإسلامية الكبرى في أوروبا، ويقترب عدد أعضائها من مائة ألف، نصفهم في ألمانيا، وهي تتحكم بنصف المساجد الخمسمئة الموجودة في هولندا.
الشكل الخارجي للخلاف لا يتعدى الشؤون البلدية. ولكن، يمكن أن يكون له قعرٌ عميق يمس الإسلام، باعتبار أن آراء السلطات البلدية مستندة إلى مرجع سياسي.
قبل أيام، نشب خلاف جديد بين تركيا وهولندا، ليس بلدياً، وامتد ليشمل كل دول أوروبا التي تجمهرت خلف هولندا، ومدت سباباتها في وجه الأتراك. كان أول التهديدات الأوروبية وقف التفاوض بشأن انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وتطرَّف بعضهم بإبرام قرار الرفض النهائي.
كان الانضمام التركي على الدوام جهداً حكومياً منظماً منذ تشكيل الاتحاد الأوروبي، لم تفتر له همة إلا خلال حكومة نجم الدين أربكان، فترة قصيرة، لتستأنف الجهود التي تضع أوروبا أمامها عراقيل كثيرة، بعضها اقتصادي وبعضها سياسي، وربما ديني أيضاً، فدخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي سيمنح الكتلة الإسلامية التركية مكاناً تجد فيه أوروبا تهديداً، على الرغم من علمانية تركيا التي كانت محمية عسكرياً من الجيش نفسه، لكن هذا لم يمنح تركيا أية أفضلية في الانضمام النهائي. والآن وبعد الخروج البريطاني من الحلف الأوروبي، وبروز نجم التطرف المحلي، ما زالت أوروبا تبحث عن عراقيل لمنع تركيا من الاقتراب.
على الرغم من سني المهادنة الطويلة، وتجاوز تركيا الانقلابات العسكرية المتعاقبة التي هدّدت استقرارها، تأبى أوروبا أن تعترف بتركيا دولةً أوروبية. وعلى الرغم من جهود تركيا الإنسانية خلال الحرب العراقية، وحالياً خلال الحرب السورية، والاتفاق الموقع بين تركيا وأوروبا، وقد مضى عليه عام، أوفت تركيا بكل التزاماتها، واستطاعت أن تستوعب أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ ومهاجر على أراضيها، كانوا مرشحين لدخول دول الاتحاد الأوروبي، لم تدفع أوروبا أكثر من واحد بالمائة من المبالغ المتفق عليها في المعاهدة بينهما، ولم تعترف بحق الأتراك في تقرير شكل دولتهم، وشكل النظام السياسي الذي يريدونه، وتصرّ على أن تراجعاً ديمقراطياً خطيراً كامنٌ في التغييرات الدستورية التي اقترحها حزب العدالة والتنمية. وعلى خلفية تجمع انتخابي في هولندا، ثارت زوابع الرفض والتحدي والاتهامات بشكلٍ يوحي بأن الأمر يتعدى حفنة من البنود الدستورية التي سيتم استفتاء الأتراك بشأنها.
أن تخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وترتفع أسهم اليمين في كل مكان، وأن تُستخدم التحديات العنصرية والدينية في الدعايات الانتخابية، يعني وجود تيار منظم ومحدّد الوجهة، يوحي بميل أوروبا إلى رفض التيار الذي هب عليها، وبدأ على شكل ربيع عربي، تحول إلى موجة هجرة ذات طابع اقتصادي/ سياسي، لكن أوروبا جعلت له وجهاً دينياً، ورفضت أن تتعامل معه إلا من خلال هذا الشكل، وانتدبت تركيا للوقوف في وجه هذا التيار، وبثمنٍ بخس، ثم رفضت أن تدفع حتى هذا الثمن، وهي تتربص الآن للالتفاف على كل شيء، وسلاحها في ذلك تطرّف يميني، يجتاح الشوارع والأحزاب والحكومات، ويصعّد لهجة عدوانية خطيرة، قد تتعدّى التهديد ومد الأصابع في وجه زميل أصيل في تحالف عسكري صرف، هو حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الأمر الذي قد يعقد المعادلة، ويحتم تدخلاً أميركياً لحلها.