الأمم المتوحّدة مع إسرائيل

الأمم المتوحّدة مع إسرائيل

20 مارس 2017
+ الخط -
نعم، إسرائيل دولة عنصرية تمارس "أبارتهايد" مُمنهجاً، هذا هو جوهر ما انتهى إليه تقرير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (إسكوا)، والذي نُشر الأسبوع الماضي على الموقع الإلكتروني للجنة، قبل أن تتعرّض الأمين العام للجنة، ريما خلف، إلى ضغوط مباشرة من الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، إذ أمرها بسحب التقرير، وأصر على قراره على الرغم من اعتراضها، ففضلت خلف الاستقالة من منصبها الدولي على التراجع وسحب التقرير.
فضلاً عن الحرج السياسي الذي تسببت فيه استقالة ريما خلف، وأعاد إلى الأذهان سوابق المنظمة الدولية مع العرب وإسرائيل، فإن الأمم المتحدة تثبت مجدّداً أنها متوحدة مع تل أبيب، بل هي "إسرائيلية" أكثر من الإسرائيليين أنفسهم، ففي إسرائيل نفسها جماعات ترفض الممارسات العنصرية بحق الفلسطينيين، بل إن المسؤولين الرسميين عادة ما يتهرّبون ويناورون في ما يتعلق بتلك الممارسات، لكن غوتيريس أكثر بجاحة منهم، فلم يكتف برفض تقرير "إسكوا"، بل يتبرأ منه، بحجة أنه نشر على الموقع الإلكتروني للجنة من دون علمه. كما لو كان ما ورد في التقرير جريمة لا يكفي التنصل من ارتكابها، بل أيضاً من مجرد العلم بها!.
للأمم المتحدة تاريخ طويل من السلبية والعجز أمام إسرائيل، وليس أكثر من القرارات التي صدرت تدين إسرائيل أو تنتقدها، من دون أي إلزام أو إجراء فعلي ضدها، إلا القرارات التي لم تتمكّن المنظمة من إصدارها أصلاً، بفعل الفيتو الأميركي الحامي دائماً وأبداً للدولة العبرية. وفي الحالات القليلة التي يتم فيها تمرير قرارات أو مواقف عبر الجمعية العامة، أو أجهزة أخرى، بعيداً عن مجلس الأمن، فإن مردودها يظل سياسياً ورمزياً من دون أي تأثير على سياسات إسرائيل وممارساتها، فهي تضرب عرض الحائط بكل ما يتعارض مع سياساتها وإجراءاتها، بما في ذلك ما يصدر عن مجلس الأمن. كما حدث، في الأيام الأخيرة لإدارة أوباما، عندما أصدر المجلس، للمرة الأولى في تاريخه، قراراً يدين بناء المستوطنات في الأراضي المحتلة، فقد هاجمت تل أبيب المنظمة الدولية بوقاحة، ودانت القرار، واعتبرته كأنه لم يكن، واستأنفت الاستيطان.
تعرّي استقالة ريما خلف الأمم المتحدة، وتكشف مبكراً عن توجهات أمينها العام الجديد، فضلاً عن طبيعة شخصيته، فالرجل لم يخجل من تبني ذلك الموقف المخزي بعد عشرة أسابيع فقط قضاها في منصبه، في مؤشرٍ واضح إلى انبطاحٍ مبكر أمام تل أبيب، وراعيتها واشنطن التي لم تحرص حتى على حفظ ماء وجه الرجل. فلم تكتف بتبرئه من التقرير، بل طالبته بأن "يخطو خطوةً أخرى، ويسحب التقرير بأكمله".
ليس جديداً أن منظومة الأمم المتحدة، وغيرها من المنظمات الدولية، لا تعبر عن "مجتمع دولي" حقيقي. ولا تحقق تلك المنظمات مصالح الدول الأعضاء فيها وأهدافها، إلا بقدر ما تملكه كل دولة من قوة ومن ثم نفوذ وتأثير. وأداء الأمم المتحدة وموظفيها ليس سوى ترجمة دبلوماسية، وإخراج مُنمق لموازين القوى الفعلية لدولها. وسواء اتسم تقرير "إسكوا" بالعلمية والحياد، واعتمد المعايير الدولية وقواعد القانون الدولي (وهو ما تميز به)، أو كان مُسيساً وغير محايد. كلمة السر ومعيار الاعتراف به وتفعيله أو التعتيم عليه وتنحيته، ليس الحياد أو العلمية، أو حتى الاتساق مع مبادئ المنظمة الدولية ذاتها، وإنما مدى توافقه أو تعارضه مع سياسات (ومواقف) الدول ذات الثقل والنفوذ، أي الولايات المتحدة وغيرها من حلفاء إسرائيل. ولا يقلل ذاك من أهمية تقرير "إسكوا" في إضافة صفحةٍ جديدةٍ موثقةٍ إلى سجل إسرائيل الإجرامي. لكنه يعني أن المواثيق والقرارات والتقارير تُسجل في التاريخ، لكنها تظل حبراً على ورق، بينما تبقى الكلمة الأخيرة لموازين القوة، التي لا تعني، بالضرورة، القوة المسلحة، وإنما مختلف أشكال القوة والقدرات الشاملة، فهي، وهي فقط، التي تكفل إقامة العدل بين الدول واسترداد الحقوق.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.