فهمي جدعان... والبحث في مصائر التقدم العربي

فهمي جدعان... والبحث في مصائر التقدم العربي

18 مارس 2017

فهمي جدعان.. وضع خبرة جيل من المتنورين بميزان النقد

+ الخط -
عبر أربعة عقود، حاول فهمي جدعان المولود عام 1940 في فلسطين، وخريج السوربون وأستاذ الفلسفة في الجامعة الأردنية وجامعة الكويت، أن يمارس النقد والكشف، عن مآلات النهضة وخطاب التقدم العربي، رافضاً أن "يستبد العقل التجريبي الاختباري المجرّد بوجود الإنسان"، وداعية إلى الحرية، فاتجه إلى المناطق المظلمة في تاريخنا العربي الإسلامي، وحاول ممارسة جراحةٍ فكرية ممكنة، ومشروطةٍ بنصب العقل للأحكام، وأظهرت جراحته عمق الأدوات المنهجية لديه، وأوضحت عن ميوله نحو التاريخ المرتكز لعقل الفيلسوف.
عني جدعان بالماضي والحاضر والمستقبل، كما عني بالتقدم والتأخر، وحاول أن يضع خبرة جيل من المتنورين العرب والفارقين، كابن خلدون والماوردي وابن رشد، وتجربتهم في ميزان النقد، وفي مجال الإفادة أيضا، محاولاً الخروج من مأزق الرهانات والخيارات التي حصرتها التجربة الفكرية للتيارات الإسلامية المعاصرة، بمقولة "الدولة الإسلامية" أو بشعار "الإسلام هو الحل". ولعل أهمية طروحاته وأصالتها المعرفية مغرية لأن يعاين المرء أبرز الأفكار التي أثارها جدعان في مؤلفاته الفكرية، ومدى ثباته أو حدوث مراجعاتٍ لديه.
وضع جدعان، منذ الألفية الثالثة، مؤلفاتٍ عديدة، لكن مؤلفاته الأولى، وخصوصا "أسس التقدم الفكري"، ظلت الأهم فيما قدمه، غير أنها لا تنفي أهمية "رياح العصر" (2002) و"في الخلاص النهائي" (2007) و"المقدس والحرية" (2009) و"خارج السرب" (2010). عاين جدعان قضايا معاصرة متسقة مع خطه الفكري العام، المدافع عن قيم العدالة والحرية والعقلانية. وفي كتابه "تحرير الإسلام ورسائل زمن التحولات" (2014)، يبدو أنه راجع مقولته في تفضيل مقولة الدولة الإسلامية على "اللاخلاص إلا بالإسلام"، فحاول تقديم صيغةٍ تصالحيةٍ بين القيم الدينية والقيم الإنسانية المعاصرة، عبر مواجهة ما يسميها "الصور الطاردة التي غيبت هدف الدين في أن يكون هديا للإنسان، ومثوى للأمم المقهورة، وقاعدة للسلم العادل في العالم، وللتواصل الإنساني الرحيم".
أصدر المفكر فهمي جدعان عام 1979 كتاب "أسس التقدم عند مفكري الإسلام"، وكان
محدداً في الهدف الذي ألف من أجله، فالإشكالية التي بحثها فيه هي قضية التقدم كما تبلورت في أعمال المفكرين العرب، وهو يرى أن هذه الفكرة إنما تبلورت نتيجة وعي أصيل فاعل في التاريخ.
انطلق البحث في أسس التقدم من الاعتقاد بأن ثمة قطيعة كاملة، سادت مع الأصول، وأن ثمة من أدار ظهره للأصول، وراح يبحث عن نهضةٍ بلا أصول. أما مفهوم التقدم عنده فهو غير محدّد بحالةٍ أو هاجس، وإنما يراه مرتبطا بأمور عدة، أهمها أن فكرة التقدم تعبير عن مفهوم اجتماعي تاريخي. وهو يرى أن مفهوم التقدم عند العرب المحدثين لم يؤخذ إلا لماماً، بالمعنى الذي نجده في أوروبا.
حاول جدعان في باكورة أفكاره في هذا الكتاب، وعبر مطالعةٍ عميقةٍ لأدبياتٍ وتراثيات موسعة، أن يرصد البدايات النقدية لواقع المجتمع، وهو ما سماه "الظلال السوداء"، حسب ما رأى في رسالة الجاحظ (توفي 255هـ)، المسماة "الرسالة النابتة"، فعلى الرغم من فساد الأموال السياسية والخلل الذي كان يضرب المجتمع، فإن الجاحظ يبعث في رسالته على الأمل وروح النضال.
ومضى في تفحص أصوات التقدم، فعرض لآراء الفقيه المغربي، أبو بكر الطرطوشي، صاحب كتاب "سراج الملوك" الذي كتب ينعى زمانه، ويأخذ عليه ذهاب صفوه بقوله: "فأما اليوم، فقد ذهب صفو الزمان وبقي كدره". ورأى أن الغزالي هو المصلح القرني، وأنه صاحب مشروع عملي وعلمي في آن، ويعتقد أن انبلاج فكرة الأشاعرة والمعتزلة مع الغزالي يشكل بداية تكون جنيني لثالوت حركة الإحياء الإسلامي.
وتحرك في إطار فحص البدايات المؤسسة للتقدم في مساحة زمنية بين القرن 2هـ/ 8 م إلى القرن 6هـ/ 14م) وهي الفترة الذهبية للحضارة الإسلامية، لأنها شهدت نقل العلوم والمعارف الإغريقية للثقافة العربية. وفي تلك الفترة الذهبية، توقف جدعان عند تجربة الماوردي، وموقف الإنسان عنده من الدين والدنيا وموادها، وعرض موقف الغزالي من نزعة "هجر الدنيا" وتعزيزه لها.
تبرز الإشكالية تقويمية هنا، إذ يرى جدعان أن الماوردي بذل جهودا عظيمة لتنظيم شؤون الدولة ومرافقها، وعلى الرغم من نقده الحاد للدنيا، إلا أنه يطالب العاقل بالرضا ومجاراة عادات العصر والانقياد للناس.
والسؤال كيف للتقدم أن يمضي أمام تلك النزعة الانقيادية الإخضاعية التي عرضها جدعان بإعجاب شديد بتجربة الماوردي، وقبله بالغزالي، إذ حشد الماوردي في كتابه أمثلة المسالمة كالقول "من لزم العافية سلم"، و"اعص نفسك وأطع سلطانك"، و"من حاج سلطانه قهر"، و"من أسخط سلطانه تعرّض للمينة". هو فقه تبرير للسلطة الغالبة، رآه جدعان منجاةً عن المواجهة.
تفحص جدعان القيم الإسلامية للتقدم، وقرّر أن "التوحيد الحي المدعوم بجهاز سياسي يفرض من عل، بشكل أو بآخر، منظومة الأوامر والنواهي الشرعية، يكفي لإحراز تقدم ونهضة". وعندما ختم أسسه للتقدم، وجد أن المتابعة للأفكار التقدمية عند مفكري الإسلام تبين أنه على المستوى الأول، أن مفهوم التوحيد الكلاسيكي قد انتهى في الأعمال الحديثة إلى صيغة دينامية حية صريحة، كفت فيها العقيدة عن أن تكون مجرد مبادئ فلسفية وأدلة منطقية جافة.

نظرية التراث .. والمحنة وجدلية الديني والسياسي
جمع فهمي جدعان، في كتابه نظرية التراث الصادر عام 1985، دراسات عدة، حاول أن
يقدم تبريراتٍ تبدو منطقيةً، من حيث جدوى نشرها مجتمعة، فما يتعلق منها بأمر التراث جاء، حسب رأيه، ردا على متقولي التراث "من يلهجون به دون أن يتسلحوا بالمعرفة الكافية". وأما دراسته حول نظريات الدولة في الفكر الإسلامي، فقد جاءت نتاجا للتعاون العلمي مع معهد الشؤون الدولية في روما.
في دراسته "فكرة التقدم عن المفكرين العرب في القرن التاسع عشر"، يعترف جدعان بأنه لم يأت بجديد، عن أمر التقدم وأسسه الذي كان أفاض الحديث والبحث عنه في كتابه الأم "أسس التقدم.."، وينسحب هذا الأمر أيضا على دراسته عن ابن خلدون، فقد قال: "ليس في فكرة التقدم وابن خلدون في الفكر العربي جديد حقيقي".
باقي الدراسات التي ضمها كتاب "نظرية التراث" من النوع الكلاسيكي التي تعكس اهتمامات شخصية أكاديمية بحتة، وهي عن هوميروس عند العرب، وداعي المشاكلة في نظرية الحب عند العرب، ودراسة عن الفارابي: مدخل إلى تجربة العلم والفعل.
ويسير جدعان في كتابه الثالث "المحنة جدلية الديني والسياسي في الإسلام". للإجابة عن السؤال التالي: ما الذي حمل الخليفة المأمون على "امتحان" الأئمة والعلماء والحكام والقضاة للقول بخلق القرآن؟ (ص، 353). ويمكن القول إن شغف الرجل في ملامسة المناطق المظلمة من تاريخنا جعله يبذل جهودا كبيرة في محاولة رسم مشهد علمي دقيق عن تلك المسألة. ولذا، فإن أقل ما يوصف به الكتاب أنه يعد الرواية الأوفى والاشمل لقضية خلق القرآن والمحنة، بفصولها الكاملة.
لأجل أن يقدم جدعان فصول الرواية مكتملة، ذهب إلى زمنٍ مبكر، يقينا منه، كما كتب في
مقدمة الكتاب، "لاح لي أن محنة خلق القرآن هي واحدة من القضايا التاريخية الكبرى القابعة في كهف الغرابة والليل الطويل، أسلمها إليه التاريخ السردي الدرامي أو التاريخ الذي لا يبعث إلا على السأم والضجر". فسعى، في المحنة، إلى تبرئة المعتزلة من فرض قضية خلق القرآن، وجعلها مشروعا سياسياً بحتاً، كان بدأ القول به زمن الأمويين وتعاظم حتى أصبح جزءا من أيديولوجيا الدولة زمن الخليفة المأمون. ورصد بدايات القول بخلق القرآن، في الفصل الأول من المحنة. وفي الثاني، يعرض لواقعة المحنة، وقول المأمون بخلق القرآن وامتحانه العلماء، الأمر الذي انتهى إلى امتحان الفقيه ابن حنبل، بحضرة الخليفة المعتصم، وضربه بين يديه بسياط حتى غشي عليه، واستمرت المسألة حتى جاء الخليفة المتوكل الذي أمر برفع القول بخلق القرآن.
وقع فهمي جدعان في إشكال منهجي، كان عليه أن يتجه إلى الفكر الذي أنتج الحالة السياسية آنذاك، فتورط في براثن الروايات التاريخية، الأمر الذي جعله يتابع المحنة في سيرة الخلفاء العباسيين، لا من خلال المنظومة الفكرية السائدة. سار أكثر قربا نحو التاريخ، فيما كان عليه الاقتراب أكثر من الفكر، كما أن حال اللغة وأهلها كان بحاجة لبيان موقفٍ في مسألة خلق القرآن، فقد كان الجدل على أشده بين علمائها، أمثال أبو عبيد معمر بن مثنى والأصمعي. وكان مكان هؤلاء حين انتقل إلى دراسة دواعي المسألة ورجال الحدث.
يكشف جدعان، بذكاء شديد، عن عقل وحس تاريخي فذ، فقد اعتمد مصادر تعد الأكثر مباشرةً للحدث، وهي رسائل المأمون إلى رجاله، التي يخلص من خلالها إلى أن مشروع المأمون كان "يدخل وفقا لظاهر النص، في باب الاجتهاد في إقامة دين الله". بعد ذلك، سار إلى دراسة مآلات المحنة وأثرها على صيرورة العقل المسلم، وذهب نحو تحليل الفكر السياسي للإمام الماوردي، وتناول النظرية الدينية الإسلامية، ومسألة حدس الزمان الملحمي الذي هو زمانٌ لحمته الفرقة والاختلاف، وسمته قضية العلم، وهنا يرى جدعان أن التمزق السياسي الدموي في جسم الجماعة الإسلامية الأولى، كان مسؤولاً عن إظهار حديث "الفرقة الناجية" إلى السطح. ويرى جدعان أن هذه الصيرورة نحو الأسوأ تعبر عن نفسها في وعي فساد الأزمنة المتأخرة وفساد أهلها".
تبرز هنا أهمية الحديث عن الأمر والمعروف والنهي عن المنكر في مواجهة فساد الأزمنة، ويرى صاحب المحنة وأسس التقدم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس أداة حيادية، فخطورته تكمن في أنه يحول الديني إلى سياسي مرة واحدة، أو أنه يجعل من الديني ذا طبيعة سياسية، وذلك بسبب ما يجده فعل الأمر وفعل النهي من انتقال من الفردي إلى الجماعي.
بمعنى أكثر وضوحا، يرى جدعان أن تمظهر قوة الدولة وطغيان شوكتها لا يتحرك إلا عند مواجهة منافس آخر يستمد قوته من الدين، ومرد ذلك التمظهر لأسبابٍ من أهمها الخشية من منازعة الديني للدولة/ السياسي سلطاتها على الناس.

طريق المستقبل: وأفكار قوى
بحث فهمي جدعان في كتابه "الطريق إلى المستقبل عن قوى الأفكار"، الصادر1996، عن
دورٍ للمثقف الحقيقي الذي يصنع الفعل الثقافي، ويعاين مجتمعه، وينحاز له، ويتساءل: ما الذي يفضي بمشاريعنا إلى الإخفاق، مع أننا نصوغها وفقا لأحكام العقل؟ ما الذي يجعلنا نضع القناع، ونمارس الدور ونعظ بالفضيلة والصلاح، وتناضل ألسنتنا من أجل الحرية والعقلانية، ثم نلقي بذلك كله عند أول قادم يلوح لنا بخيراتٍ من نوع آخر.
تبدو مرارة البحث عن تبدلات المثقفين، خصوصا الأيديولوجيين، وتحولاتهم، لا بل خياناتهم أكثر وضوحا، حين يقول جدعان: "أذهب إلى حدود الزعم أنه لا جدوى من المثقفين، وأن علينا أن نصنع بهم ما أراد أفلاطون أن يصنع بالشعراء". ويرى أن المثقف المعوّل عليه اليوم ليس الأيديولوجي، ولا السياسي، وليس الأكاديمي الذي برأيه من جماعة "يغرقون في شبر من الماء حال مغادرتهم دوائرهم الأكاديمية".
بعد نقد المثففين، يقف جدعان عند النوازل الكبرى الواقعة على الثقافة العربية المعاصرة، ويحدّدها بـ: 1- الانتصار الساحق للحضارة الغربية. 2- تفجر قوى الغريزة العربية. 3- اضمحلال الجسم العربي وتآكل بناه الذاتية. 4- الدخول في حقبة السلام العربي الإسرائيلي.
تخرج معاينة النوازل عند جدعان نحو تحديد لمعنى التراث، ثم الحداثة، وما خص العرب أنفسهم بها من تعريف، ويخلص إلى أن الحداثة ولدت فعلا في لحظتين متتاليتين، لم تؤت الأولى منهما ثمرها على الفور، وإنما انتظرت قدوم اللحظة الثانية. ويقصد باللحظة الأولى تلك التي أطلق رصاصتها ابن خلدون الذي أدرك، بحسب جدعان، وعي الأفول والانهيار، واستوعب تراثا غزيرا، ثم تجاوزه التراث التاريخي باكتشافه علم العمران.
أما اللحظة الثانية فهي التي بدأت في القرن التاسع عشر، والتي أعلنت عنها صرخة الشيخ حسن العطار، غداة التقائه بعلماء الحملة الفرنسية، واطلاعه على مبتدعاتهم الجديدة، ويومها قال: "بلادنا لا بد أن تغير أحوالها، ويتجدّد بها من المعارف ما ليس فيها".
مضى جدعان في معاينة إشكالية التراث والحداثة ثم الثقافة، ونذر ما بعد الحداثة، وسار نحو البحث عن شكل العلاقة مع الغرب، وربط هذا الأمر مع مسألة الإيمان، ويقرّر "أن الشبيبة التي نتصل بها يوميا تشعر بالارتباك الشديد في كل مرة تتجاوز "الدائرة الصماء"، ويضيف: "لدي شواهد لا يمكن دحضها على أن لغة العقيدة القديمة لم تعد لغةً مسموعة، وأن المطلوب هو شيء غير ذلك تماما"، ويرى أننا بحاجةٍ لإدراك "الافتراق المذهبي بين شطر الإسلام السني والإسلام الشيعي". وعلى الرغم من ملامح الاقتراب، إلا أن روح الافتراق عادة، وطفت إلى سطح الراهن معزّزة بآليات التفتيت القطرية والدولية.
في مساحات البحث عن طريق المستقبل، تحدث فهمي جدعان عن روح التقابل والامتحان، وأثرها في دولة الحاكمية، وقرّر أن المناطق الدقيقة في الشريعة هي أكثر المنابع صعوبة، ومنها: علاقة الدين بالدولة، وموقف الدولة من الدين.
طالب جدعان باجتهاد التيسير، لا التياسر، ويرى أن النوع الأول يمكن أن يمكن من التقاء الدين بالدولة، ويقول: لو أن الدين خرج، أو أُخرج، من حالة الأزمة، واسترد حالة اليسر والرحمة، ولو أن الدولة بدلت سحنتها، تأمر بالحرية والعدالة والديمقراطية، لأصبح الواقع أكثر قبولا"، ثم يرى أن ثمة مسائل أكثر شخوصا اليوم أمام الإسلام، هي حقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعية.

الدعوة إلى العقلانية
عند قراءة أدبيات فهمي جدعان، يسأل المرء: ما الداعي لكتابه "الماضي في الحاضر"، الصادر عام 1997، خصوصا أن الكتاب حمل بحوثا، كانت قد نشرت سابقاً، مثل داعي المشاكلة في نظرية الحي عند العرب، وفكرة التقدم عند المفكرين العرب، وابن خلدون في الفكر العربي الحديث، ومعنى السلفية؟
في المقدمة، يعتمد جدعان على حدس القارئ في تفضيل أهمية مقالات الكتاب، ونجده يقف عند دلالات أربع "يرى أن تبدي له كشفاً من غطاءٍ لم يكن قديراً سابقاً أو لم يكن تجلى بهذا الوجه".
راجع القسم الأول من الكتاب "مراكب لكل الفصول" تشكل التكوينات والمفاهيم والقيم للفلسفة الإسلامية، وهو يرى أن النص الديني منزل وموحى به، ولكنه باعث على التفكير الفلسفي أيضاً.
في بحثه "الطريق الملكي"، يعتقد جدعان أن ابن خلدون وعى وعياً تاماً وجهي العلم اللذيْن يخوض بينهما البشر، ويتداولونهما في الأمصار، إلى عهده، تحصيلاً وعلماً. والمقصود هنا العلم العقلي والعلم النقلي، وهو يرى أنه ليس غريباً أن يأتي ابن خلدون على هذا النحو عن هذه الطرق جميعاً، فقد استنبط علماً جديداً أودعه كتاباً عجيب المذهب، مبدع الطريقة والأسلوب، شرح شبه أحوال العمران والاجتماع.
يعتبر جدعان أن ابن خلدون سار في دروبٍ أخرى جديدة، لم يألفها العقل العربي، ولم تدرس، وإنما عاود الناس السير فيها من بعد ابن خلدون، بعد وقوفٍ طويل، عند ما استقر من أمور. وفي دراسته عن السلفية، يرى جدعان أن تاريخ السلفية لم يكتب بعد، ويقول: "إننا على ثقة من طبيعة الفترات التي نجم فيها الموقف السلفي، وكانت تنجم في كل مرة، يجد الوعي الإسلامي التقوي أن ما يجده من عقيدة، وما يماثله من أمة أو جماعة مهدد بخطر". (ص 80). ويتساءل عن حدود السلفية التاريخية، وماهية الأصول التي تستند إليها، ويرى أن الإجابة عن هذا السؤال تقضي بأن نرجع مباشرة إلى لحظاتٍ رئيسة، ابتداء من كلمة عبدالله بن مسعود "اتبعوا ولا تبتدعوا" (ص 83)، والتي بلغت أوجها، حسب جدعان، مع ابن تيمية الذي بلور المنهج السلفي وأبان قواعده.
في المنظور المعاصر، يرى جدعان أن الشيخ محمد الغزالي كان مميزاً عمن سبقوه؛ لأنه
ابتغى صوغ منظومة فكرية تصورية محكومة بآليات المنطق التقني ومنهجيات العالم الطبيعي السائدة (ص107-127). أما في دراسة نظريات الدولة في الفكر العربي الإسلامي المعاصر (ص127-182)، فيقرّر أن التوتر الراديكالي الأول في العالم الإسلامي جاء عقب الانقلاب الكمالي في نظرية الشيخ علي عبد الرازق في الخلافة التي ذهب فيها مذهباً جديداً في الإسلام، وكان السؤال الذي أثاره: هل الخلافة ضرورية واجبة شرعاً؟ بمعنى آخر، كان سؤال عبد الرازق: هل هناك نظام إسلامي محدّد للحكم؟ (ص:131). وكان جوابه أن الخلافة ليست جزءاً ضرورياً من الدين.
يرصد جدعان ردود الفعل والتصورات التي أعقبت آراء علي عبد الرازق، ابتداءً من كتاب "من هنا نبدأ" لخالد محمد خالد الذي وافق عبد الرازق سياسياً، وهاجم العقول المتحجرة، ولكن ذلك لم يتم إلا بعد ربع قرن على صيحة الشيخ علي عبد الرازق (ص:133).
عاين جدعان مواقف عبد الحميد بن باديس وحسن البنا الذي يعتقد أن دراسته ينبغي لها أن تربط فكره بما كان سائداً في مصر من جو مشحون بالخصومات السياسية. ثم يستعرض آراء عبد القادر عودة في الخلافة التي يجملها في أمر الخلافة بأنها لا تخرج عما قرره الفقهاء السابقون في الأحكام السلطانية.
بعد عرضه التيارات التي نتجت لأسباب من التوتر الراديكالي، يعرض جدعان آراء الشيخ تقي الدين النبهاني الذي أسس حزب التحرير الإسلامي، والذي يهدف إلى إقامة دولة الخلافة، ويعلن الحرب على جميع الأنظمة السياسية السائدة عربياً، على نحوٍ لا هوادة فيه، يخلص جدعان، بعد معاينه الخطاب الإسلامي المعاصر، الذي أتمّ فيه قراءة أفكار سيد قطب من أحمد حسين وعلال الفاسي ومحمد عمارة إلى أن "ما هو أهم من صنع دولة إسلامية هو ايجاد الأحوال المعرفية والروحية والعقلية والاجتماعية والاقتصادية التي تحقيق شروط الحياة الإنسانية... والدرب لهذا طويل من غير شك".
القسم الثاني من الماضي في الحاضر حمل عنوان "مراكب إغريقية"، ويضم دراسات عدة أولها بانوراما الفلسفة العربية، وفيها أن ولادة الفلسفة، بالمعنى الاصطلاحي في الإسلام، تمتد جذورها إلى واقعيتين شخصيتين كبرتين هما: النص الإسلامي نفسه، والحركة الكلامية الدينية أو تيار الرأي.

دلالات

F1CF6AAE-3B90-4202-AE66-F0BE80B60867
مهند مبيضين
استاذ التاريخ العربي الحديث في الجامعة الأردنية، ويكتب في الصحافة الاردنية والعربية، له مؤلفات وبحوث عديدة في الخطاب التاريخي والتاريخ الثقافي.