"الشعب يريد" والمؤشر العربي

"الشعب يريد" والمؤشر العربي

17 مارس 2017
+ الخط -
يعدّ المؤشر العربي أحد أهم المناشط التي يضطلع بها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ارتبط بنشأة المركز من جانب، وبحدث الثورات العربية من جانب آخر، حيث كان العام 2011 نقطة الأساس بانطلاقه، مقدماً مجموعة من التأشيرات من خلال حزمة من الأسئلة، مثلت استطلاعا وتأشيراً للرأي العام العربي، وقدم رؤى مختلفة حول قضايا الثورة والديمقراطية وقياس وزن الفاعلين في الحياة السياسية والانخراط والمشاركة فيها، كما مثل ذلك المؤشر حالة نوعية في استطلاعات رأي عام العالم العربي.
وفي هذا المقام، حريٌّ بنا أن نتحدّث عن دراسات الرأي العام بشكل عام، وعن الاستطلاعات في المنطقة العربية، والتي واجهت كثيرا من الغبن وعدم الاهتمام، فضلا عن أن هذا المؤشر، على الرغم من أنه الإصدار الخامس، إلا أن حجم الاهتمام به ظل اهتماماً موسمياً يتعلق بإصداره وتوقيته، على الرغم مما يحمله هذا المؤشر من أرقام ذات تأشيرات ودلالات، تتطلب ليس فقط التحليل التأشيري الأولي الذي يقدمه القائمون على ذلك التقرير، ولكن من المهم أن يلحق ذلك تراكما بحثياً يكون استكمالا وتراكما لهذا الجهد الأولي، من خلال تقديم باحثين تحليلا بحثيا، وشبكة من التفسيرات حول جملة التأشيرات التي يكشف عنها هذا المؤشر العربي. ذلك أن التحليل التأشيري يبرز إشكالاتٍ، ويشير إلى مفارقات، أما الجهد البحثي فإنه يقوم على قاعدة من الوقوف على تحليل معطيات الرقم في سياقاته الواقعية، وفي البيئة الحاضنة له، أما شبكة التفسير فإنها تقدم جملة العوامل الدافعة للظواهر، والمشكلة لها، والكامنة في أعماقها، هذا التلازم بين تلك المستويات جميعا إنما يشكل ضرورة علمية، وإن الوقوف بذلك المؤشر على قيمة ما فيه عند شطآن التحليل التأشيري ظلم له، ليس من القائمين عليه،
ولكن من جانب هؤلاء الباحثين الذين يهتمون بتلك القضايا، حينما تقدم لهم مادة ذات قيمة قصوى، قامت عليها مؤسسة كبرى من خلال فرق من الباحثين الذين يقومون باستطلاع الرأي في دول عربية متعدّدة، إلا أن هذه المادة نصف المصنعة التي يجب أن يتراكم عليها عمل بحثي تحليلي وتفسيري إنما تشكل مطلبا علميا، بما يؤكد على تمكين ثقافة الاستطلاع التي تشير بحق إلى قيمة الرأي العام ووزنه في مسار الأحداث وتقييمها والسياسات وتأثيراتها.
وغاية الأمر في ذلك أن نؤكد أن عدم قيام الباحثين بهذا الجهد يشير إلى ما يمكن تسميته "ظلم المؤشر"، أو بعبارة أدق "المؤشر المظلوم"، ذلك أن المؤشر، على الرغم مما يوفره من مساحات متجددة للبحث، ومن اجتذاب قضايا أساسية ومحورية في الواقع العربي، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، فإن عدم القيام بذلك إنما يشكل تقصيرا من تلك الجماعة البحثية في العالم العربي، حينما لا تقوم بدراسات ميدانية متكاملة، تترتب على ضرورة تحديد هذه القضايا وتفسير العوامل الكامنة فيها.
ظاهرة الرأي العام باعتبارها تعبيرًا جمعيًا عن إرادة الناس، تشير إلى أهمية استطلاعات الرأي المرتبطة به، بما ينقلنا تلقائيًا إلى التعبير المباشر عن إرادة الجماهير، ويعد هؤلاء (أي الجماهير) بمثابة شهود يدلون بإفاداتهم في القضايا الكبرى، وإبداء آرائهم في الشأن العام، وتنتشر ثقافة استطلاعات الرأي العام في الأنظمة الديمقراطية، والتي يستفيد منها السياسي في تقويم سياساته، ويملك سلطة تأثير لا يمكن إنكارها.
ودور استطلاعات الرأي العام، بالدرجة الأولى، رصد الواقع ومحاولة تفسير تعقيداته في لحظة (فترة) جمع البيانات، وأهم سمات الرأي العام كونه متحركا ومتقلبا، ويتكون ويتشكل نتيجة عناصر وعوامل متعددة ومتداخلة ومتنوعة، ومن ثم تبرز أهمية عملية استطلاع الرأي، وتكرارها على فترات زمنية، تسمح برصد التغيرات والوقوف عليها والقيام بالمقارنات، كل ذلك يعقد أهمية إضافية للمؤشر العربي في هذا المقام.
هذا "المؤشر المظلوم"، خصوصاً بعد إصداره الخامس، وصدوره مع أحداث ثورات الربيع العربي، إنما يؤشر إلى حالة رمزية يمكن التأكيد على مشهدين أساسيين فيها. يتعلق الأول 
بالثورات العربية التي جعلت شعارها الأساسي، والذي تداولته في جملة الاحتجاجات، حتى مع تغير مساحات الجغرافيا، في اتفاق فريد، كلمتين "الشعب، يريد". "الشعب يريد"، وفق هذا المنطق إنما يعبر عن حال إرادة هذه الشعوب وقدرتها على التغيير، وما قدمته هذه الثورات من أن تلك الشعوب تعبر عن رقم صعب، لا يمكن تجاوزه في معادلات التغيير، إذ قدمت هذه الشعوب شعاراتٍ تصدع بها ضمن احتجاجاتها، تعبر عن إرادة الناس والجماهير والمواطنين، وما الرأي العام إلا تلك الظاهرة التي تعبر عن هذه الحال، وتؤكد على رمزية توافق مثل هذا المؤشر، وصدوره مع الثورات العربية. أما المشهد الثاني فيؤكده أمر يتعلق بقيمة الحرية الصاعدة، والتي تنامت مع حدث الثورات العربية، والتي تشكل بيئة مواتية للتعبير عن وزن هذه الشعوب، وأن القيام بمثل هذه الاستطلاعات هو اهتمام بإرادة هذه الشعوب وأوزانها، فهي ليست كمّاً مهملا، ولا سقط متاع في معادلة السياسة ومكونات الاجتماع.
ومن هنا، كانت استطلاعات الرأي العام من أهم لبنات معركة الوعي، وعي الناس بقضايا برز بها الاهتمام مع حديث الثورات والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وتأكد من ذلك كله أن هذه الاستطلاعات وإطلاقها عبرت عن حالةٍ من شرعنة ذلك الوعي، واعتراف بتلك القيمة التي افترضها ذلك الشعار الساري "الشعب يريد"، فهل من مؤسسة يمكن أن تترجم ذلك الاهتمام في إطار "الشعب يريد" إلا من خلال استطلاع علمي يتم بتخطيط منهجي وأدوات بحثية فاعلة ليقدم خلاصات تأشيرية جديرة بالتوقف عندها في معركتي الوعي والتغيير.
ونقول إن ثقافة استطلاعات الرأي العام وبما تشكله من طاقة حقيقية يمكن أن تجلي هذه المواقف الشعبية وتبرز عناصر تلك الإرادة الكامنة فيها وتحقق بذلك انتقالة تتناسب مع تلك الثورات والتأثير الذي تتركه في معركتي الوعي والتغيير، ومن المهم أن نؤكد أن استطلاعات الرأي العام في بيئة الاستبداد إنما تشكل أحد مسارات التحدّي والوعي بعملية التغيير، والمستبد قد يهتم بالرأي العام، ولكنه لا يهتم به في إطار الإصلاح والإفصاح، ولكن يهتم به في إطار عملية تشكيل وتزييف واحتيال، في محاولة منه لتعزيز ما يمكن تسميته الحال المناقضة للوعي، بالتأكيد على حال القطيع الذي يسهل قياده في إطار هندسة الإذعان، أو صناعة الرضا الكاذب.
معركة المعرفة من خلال مثل هذه الاستطلاعات والمؤشر العربي الذي يمثل محاولة رائدة في هذا السياق إنما تشكل واحدةً من الطاقات الكاشفة والفاضحة لشبكية الاستبداد وتميط اللثام عن حال التجاهل والتغافل، وتؤكد على الوعي بمعطيات هذه المقولة الذهبية "الشعب يريد" ومتطلباتها.
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".