الجيوش الصغيرة والحروب منخفضة المستوى

الجيوش الصغيرة والحروب منخفضة المستوى

16 مارس 2017
+ الخط -
هناك مقولة شهيرة للرئيس المصري الراحل أنور السادات، في أعقاب حرب أكتوبر 1973، عندما شرع في ما تعرف بعملية السلام مع العدو الإسرائيلي، وهي أن تلك الحرب ستكون "آخر الحروب". وأوضح السادات، وقتها، أنها ستكون آخر الحروب بين مصر والعدو الإسرائيلي، في سياق ما كانت تعرف بجولات الصراع العربي - الإسرائيلي العسكرية. وعلى الرغم من أن تلك الحرب كانت بالفعل آخر الحروب بين مصر وهذا العدو ، بعد مرور أكثر من 40 عاماً، وأيضاً كانت آخر الحروب التقليدية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط بين الجيوش النظامية الكبيرة، بأفرعها المختلفة، البرية والبحرية والجوية، على مسارح عمليات محدّدة، وهي "الحروب مرتفعة المستوى"، على الرغم من ذلك، لا السلام، بمفهومه الشامل، والعادل، تحقق في المنطقة، ولا الحروب، بمستوياتها المختلفة انتهت. وكل ما أمكن التوصل إليه مجرد سلام تعاقدي بين مصر والعدو الإسرائيلي يُطلق عليه بعضهم السلام البارد، واتفاق سلام آخر، شبيه به، مع الأردن، بالإضافة إلى اتفاق أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية، أدخل القضية برمتها فى متاهاتٍ لا تنتهي من الفرقة والتمزق. والأهم أن الأمة العربية لا تزال تعيش في صدمة هزيمة الخامس من يونيو/ حزيران 1967، وما زالت تنتظر إزالة آثار العدوان، وانسحاب العدو من الأراضي العربية التي لا تزال تحت الاحتلال.
ولأن الجيوش الكبيرة، والحروب مرتفعة المستوى، لم تحرّرا أرضاً، ولم تحققا سلاماً، ولم تزل آثاراً لعدوان، أو تُعيد حقاً مسلوباً، كان لا بد أن تظهر نماذج جديدة للجيوش، وأشكال مختلفة للحروب، في مواجهة العدو الإسرائيلي في بداية الأمر، متمثلة في حركات/ منظمات/ جبهات/ أحزاب المقاومة، وأجنحتها العسكرية، أو الفاعلين من غير الدول (NON STATE
ACTORS)، ولعل أوضح مثال لها حركة المقاومة الإسلامية حماس، وجناحها العسكري (كتائب عز الدين القسام )، وحركة الجهاد الإسلامي، وجناحها العسكري (سرايا القدس)، وغيرهما الكثير على الساحة الفلسطينية. وتلك الأجنحة العسكرية بمثابة "جيوش صغيرة" متحرّرة من أجهزة القيادة البيروقراطية الضخمة، وهيئات الأركان، وقيادات الأفرع، والتراتبيات العسكرية بضوابطها الوظيفية المعقدة، تمتلك معدات وأسلحة خفيفة ومتطورة، وتتمتع بدرجة عالية من المرونة والقدرة على المناورة، والأهم امتلاك قدر رفيع من روح الجهاد، والتضحية، والإيمان بالهدف، والتحدّي، والصمود. ويكفي النموذج الذي قدمه قطاع غزة، والمقاومة الفلسطينية، بالصمود الأسطوري 51 يوماً، في مواجهة العدوان الإسرائيلي في صيف 2014، بل تجاوز الأمر مجرد الصمود داخل القطاع إلى تهديد الأمن والعمق الإسرائيلي نفسه، وإحداث خسائر فادحة في أرواح جنود العدو، وأسر عديدين منهم.
ذلك هو نموذج للجيوش الصغيرة، وحروبها منخفضة المستوى، على الساحة الفلسطينية، وبالتحديد في قطاع غزة، والتي تمكنت من دفع العدو الإسرائيلي إلى الانسحاب من القطاع في العام 2005، ثم تمكنت من الصمود في وجه حروبه المتعددة في أعوام 2008 و2012 و2014، وأجبرته على عقد صفقاتٍ لتبادل جنوده الأسرى مع أسرى فلسطينيين في سجونه، ولا يزال يسعى إلى استعادة أسراه في حربه الأخيرة.
لم يقتصر الأمر على الساحة الفلسطينية، وإنما امتد ليشمل منطقة الشرق الأوسط، بأشكال وصور وانتماءات مختلفة، في لبنان، حزب الله وجناحه العسكري الذي رفع شعار مقاومة الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب اللبناني، وفي إيران أنشأ النظام قوات موازية للجيش النظامي باسم "الحرس الثوري"، لتكليفه بمهام خاصة داخل الحدود وخارجها. أما في العراق، فكان المشهد مختلفاً بعد انتهاء عملية الغزو الأميركي في العام 2013، والحرب عالية المستوى التي شنتها الولايات المتحدة، وانتهت بسقوط نظام صدام حسين، واحتلال العراق في أقل من ثلاثة أسابيع، وما أعقب ذلك من حل الجيش العراقى النظامي، ولم تتجاوز الخسائر الأميركية خلال عملية الغزو بضع عشرات من العسكريين. ثم ظهرت على الساحة العراقية عشرات الجيوش الصغيرة، ذات التوجهات الطائفية المختلفة، ودخلت مع القوات الأميركية في حروبٍ منخفضة المستوى، تكبدت فيها القوات الأميركية بضعة آلاف من الخسائر البشرية في بضع سنوات.
وعمت ظاهرة "الجيوش الصغيرة" منطقة الشرق الأوسط، تحت شعارات طائفية وقومية
عديدة، وانتشرت "الحروب منخفضة المستوى" التي أثارت حالة من الفوضى، وعدم الاستقرار في المنطقة.
وجاء تصريح قائد القيادة المركزية الأميركية، الجنرال جوزيف فوتيل، أمام الكونغرس، بشأن استراتيجية بقاء قوات أميركية في العراق وسورية، بعد معركة الموصل، إنها لن تقل عن خمس سنوات، ما يعني قناعة أميركا أن استعادة الموصل في العراق، وحتى استعادة الرقة في سورية، من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) لا يعني زوال خطر "الجيوش الصغيرة"، وقدرتها على شن الحروب ذات المستوى المنخفض، في العراق وسورية، بل ستبقى سنوات. وأيضاً استمرار هذا الشكل من الحروب فى المنطقة، وما يترتب على ذلك من استمرار حالة الفوضى "اللاخلاقة"، وما قد يمثله ذلك من انعكاساتٍ سلبية على الإستقرار، والسلم، والأمن الإقليمي، في الشرق الأوسط، فترة غير محدودة.
2FABA6BB-F989-4199-859B-0E524E7841C7
عادل سليمان

كاتب وباحث أكاديمي مصري في الشؤون الاستراتيچية والنظم العسكرية. لواء ركن متقاعد، رئيس منتدى الحوار الاستراتيجى لدراسات الدفاع والعلاقات المدنية - العسكرية.