بائع الزيتون

بائع الزيتون

02 مارس 2017

من أين يأتي الزيتون؟ أجبت: من شجرة الزيتون (Getty)

+ الخط -
بعد خروجي من السجن، سألت طفلي الذي لم يتم عامه الخامس، سؤالا تقليدياً جداً ومعتاداً، عما يريد أن يكون عندما يكبر، ويصير رجلاً. أجابني الإجابة التقليدية التي يجيبها أي طفل، أنه يريد يكون مثلي أنا أبوه، قال: أريد أن أعمل مثلك، عندما أكبر وأن أكون مهندسا، أبني البيوت والعمارات. انشكحت كما يقولون. يريد ابني أن يكون مثلي عندما يكبر، إنه أمر يدعو إلى السعادة. 

مرّت أيام، وسمعت طفلي يحدّث أمه بصوت خافت، إنه لا يريد أن يصبح مهندسا مثل أبيه. .. لماذا؟ سألته أمه. أجاب: لأنه كان يعمل في مكان سيئ وضيق ومظلم، وكان طول الوقت يرتدي لونا واحدا هو الأزرق، وكان لا يستطيع أن يذهب معنا إلى البيت، وكنا نراه بصعوبة في عمله كل فترة طويلة، وكنا ننتظر ساعات كثيرة قبل أن نراه، وكان المكان مليئا بالعساكر الذين يصيحون طوال الوقت. لا أريد أن أصبح مهندسا مثل أبي، أريد أن أكون بائع زيتون، فأنا أحب الزيتون كثيرا.. هكذا أجاب أمه بلهجته الطفولية الجميلة.
سمعتُ هذا الكلام، وفهمت سبب التحول المفاجئ، فقد تذكّرت أني عندما كنت في السجن اضطررت للكذب عليه، إشفاقاً عليه من صعوبة فهم الحقيقة، فكيف كنت أشرح لطفلٍ لم يتجاوز الثلاثة أعوام وقتها أنني في السجن، وأن هذا المكان الكئيب القذر يطلق عليه سجن، وكيف أشرح له لماذا أنا هنا مع اللصوص والقتلة وتجار السلاح والمخدّرات وكل محترفي الإجرام، ومع المظلومين أيضاً. ولماذا يوجد في السجن مظلومون، ولماذا يتم سجن ناس لأسباب سياسية، أو بسبب رأي أو فعل لا يرضى عنه الحاكم.
اضطررت للكذب إشفاقاً عليه، وعندما سألني قبل ثلاث سنوات: ما هذا المكان، ولماذا لا تعود معنا إلى البيت، أجبته بأول ما خطر على بالي: أنا في الشغل، وهذا مقر العمل، وصاحب 
العمل يرفض عودتي إلى المنزل، إلا بعد ثلاث سنوات.. وها هو الآن، عندما أعاد التفكير، أصبح ينفر من مهنة الهندسة المدنية، لأنه يظن أن على المهندس أن يقضي ثلاث سنوات في هذا المكان الكئيب القذر الذي سيعرف فيما بعد أن اسمه سجن.
فضّل طفلي مهنة بائع الزيتون على مهنة الهندسة. لا مانع، طالما أنه يحب الزيتون، فمن الممكن أن يبرع في شيء، أو يبتكر شيئا خاصا بالزيتون، وهناك عشرات من قصص النجاح المرتبطة بحب شيء ما، والإخلاص له.
قلت له: طالما تحب الزيتون هكذا، يمكنك زراعة الزيتون كذلك. فقال لي إنه موافق، لكنه سألني: من أين يأتي الزيتون. أجبته: من شجرة الزيتون. فقال: ومن أين تأتي شجرة الزيتون. قلت: يتم زراعتها في الأرض. سألني: وأين هذه الأرض التي يمكن زراعة الزيتون فيها. قلت له: سيناء أفضل الأراضي التي يمكن زراعة الزيتون فيها. قال لي: وهل يمكننا الذهاب إلى سيناء وزراعة الزيتون فيها؟ فقلت له إن من الصعب الذهاب إلى سيناء هذه الأيام، فسألني عن السبب، فأجبته لأن فيها حرباً، فسألني السؤال الأصعب: لماذا في سيناء حرب؟ قلت: لأسباب كثيرة والوضع معقد، وأنا لا أعرف كل ما يحدث في سيناء، وعندما تكبر ربما تستطيع أن تعرف. صمت قليلاً، ثم توالت الأسئلة الصعبة، فسألني بعد أن برقت عيناه البريئتان بفكرة جديدة: هل يمكن يا أبي أن نزرع شجرة الزيتون بجوار المنزل؟ توجد حديقة مهجورة بالقرب من المنزل ولا يعتني بها أحد.
ما هذه الأسئلة الصعبة التي يسألها هذا الولد، حاولت تبسيط الإجابة في شرحي أن هذه الحدائق التي لا يعتني بها أحد، والتي تحيط بمنزلنا ملك الحكومة، وقد أنشأتها قديماً عند تصوير افتتاح مشروعات إسكان الشباب. ولكن، لأن المنطقة التي نسكن فيها ليست للأغنياء، لذلك أهملت الحكومة الاعتناء بتلك الحدائق، حتى أصبحت خرابات. فواصلَ تصعيد الأسئلة الصعبة، وعاجلني بسؤال آخر، كنت فكرت فيه بالفعل منذ سنوات، فقال لي: هل لو زرعنا شجرة زيتون في الحديقة المهجورة قرب المنزل، هل ستقتلعها الحكومة؟ حزنت وأنا أقول له: للأسف الشديد ستقتلعها الحكومة، يا بني، فستعتبر تعمير الخرابة والحديقة المهجورة تعدّيا على ممتلكات الدولة.
استمر الطفل الذي لم يتم عامه الخامس في تصعيد مستوى الأسئلة، وسألني سؤالا أكثر 
صعوبة: هل يمكن أن نذهب إلى مكان بعيد لنزرع الزيتون؟ فرحت بذلك السؤال فهذا أيضاً كان أحد أحلامي القديمة التي اندثرت، ولكني أجبته، بعد زوال الفرحة الوقتية، إنه يمكن، ولكن واقعياً يصعب تحقيق هذا الحلم، لأن الحكومة تبيع الأراضي في الصحراء بسعر غال، وأنا لا أملك هذا المبلغ.
وعاجلني بأسئلةٍ متلاحقة، كل واحد منها أصعب من الآخر، لماذا تبيع الحكومة الأراضي في الصحراء بسعرٍ غال؟ لماذا لا نملك ثمن أرضٍ صغيرة في الصحراء؟ ولو زرعنا شجرة زيتون صغيرة في الصحراء، هل ستقتلعها الحكومة؟ لماذا؟ هل لا بد أن نكون أغنياء، حتى تزرع الحكومة الحدائق المهجورة والخرِبة، هل لا بد أن يكون معنا نقودٌ، لكي نستطيع شراء أرض في الصحراء البعيدة، لنزرع بها زيتونة، لماذا تفعل الحكومة ذلك، وهل كل من لديه أرض يزرعها، كان لديه نقود اشترى بها أرضه؟ لماذا يوجد ناسٌ يريدون زراعة الزيتون ولا يستطيعون، لأنهم لا يملكون نقوداً لشراء أرض، وهناك ناس لديهم أرض لا يزرعونها، وناس لديهم نقود ولا يرغبون في زراعة الزيتون؟ قلت له بعصبية: من فضلك اصمت، وتوقف عن هذه الأسئلة، لستُ الحكومة، وأنا لست رئيساً للجمهورية. فقال لي بجديةٍ شديدة، وكيف تكون رئيساً للجمهورية؟ فنظرت إليه برعبٍ شديد، ماذا تريد أن تفعل بي، يا بني، ألا تكفي ثلاث سنوات... في الشغل؟

دلالات

DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017