"الحقائق البديلة"

"الحقائق البديلة"

10 فبراير 2017
+ الخط -
في عالم السياسة، لا يعد الكذب عيباً ونقيصة، لا لأنه خلقٌ مقبول ومبرّر، بل لأن لا أحد يعترف به، فهو إذن غير قائم وغير موجود في زعم الكاذب أو الكاذبين. ولكن في عالم إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، فإن إنكار الكذب، على الرغم من وقوعه، كما يفعل بقية السياسيين، ليس هو الطريق الأمثل، حيث أنه ومستشاريه بلغت بهم الوقاحة أن يعتبروا الكذب "حقائق"، ولكنها "بديلة".
"الحقائق البديلة" Alternative facts، مصطلح سكّته كيليان كونواي مستشارة ترامب، في معرض دفاعها عن كذب بواح أطلقه الرئيس الأميركي والناطق باسمه، شون سبايسر، بشأن أعداد الذين حضروا حفل تنصيب ترامب رئيسا للولايات المتحدة في واشنطن في العشرين من يناير/ كانون الثاني الماضي. فعلى الرغم من أن الصور الجوية تثبت، بما لا يدع مجالا للشك، أن أعداد الحاضرين كانت أقل بكثير من أعداد من حضروا حفلي تنصيب باراك أوباما عامي 2009 و20013، إلا أن ترامب وسبايسر لم يتورّعا، إلى اليوم، عن الكذب، متحدّين كل الأدلة الدامغة التي لا تقبل نقاشا، بما في ذلك الإحصاءات الدقيقة لأعداد من استقلوا القطارات إلى واشنطن صبيحة يوم تنصيب ترامب، مقارنةً بأعداد من استقلوها إلى واشنطن صبيحتي يومي تنصيب أوباما. وعندما واجه الصحافي في محطة إن بي سي التلفزيونية، تشاك تود، كونواي، بالأدلة والقرائن على كذب هذه المزاعم، فاجأته الأخيرة بالقول: "لا تبالغ في الأمر. أنت تقول إنها كذب.. ولكن السكرتير الصحافي، شون سبايسر، أعطى حقائق بديلة لما يُزْعَمْ". وقد ردَّ تود بالقول: "الحقائق البديلة ليست حقائق. إنها أكاذيب".
بعيدا عن الخلاف حول أعداد من ذهب إلى واشنطن لحضور حفل تنصيب ترامب رئيسا، فإن منطق "الحقائق البديلة" هو ما حكم، ولا يزال، معسكر هذا الرجل، فحملته الرئاسية قامت على الكذب منذ اليوم الأول، أو على "الحقائق البديلة"، من قبيل الزعم إن معظم المهاجرين
المكسيكيين إلى الولايات المتحدة تجار مخدرات ومجرمون ومغتصبون.. إلخ، بل إن ترامب كان قد مَوَّلَ لسنوات تحقيقا لإثبات زعم أن أوباما لم يولد في أميركا (حقيقة بديلة = كذبا)، وبالتالي فهو ليس رئيسا دستوريا. وها هو اليوم بعد أن أصبح رئيسا، يزعم أن الإعلام يتعمد التقليل من خطر "الإرهاب الإسلامي"، عبر إغفال الحقائق والحدِّ من التغطية الإعلامية له، بل وصلت الجرأة بكونواي إلى أن تزعم، كذبا، أواخر الشهر الماضي، أن أحد أسباب إصدار ترامب قرار حظر السفر من سبع دول بأغلبية مسلمة إلى الولايات المتحدة يعود إلى مجزرة وقعت في بلدة بولينغ غرين في ولاية كونيتيكت، عام 2011، على أيدي مُهاجِرَيْنِ عِراقِيَّيْنِ، لتعود وتتراجع بعد ذلك، وتقول إنها كانت تشير إلى حادثة اعتقال عِراقِيَّيْنِ ذلك العام بتهمة محاولة تقديم دعم مادي لتنظيم القاعدة في العراق. ولا يتوقف الكذب، أو منطق "الحقائق البديلة" عند ذلك الحد. مثلا، فعلى الرغم من أن النتائج النهائية للانتخابات الرئاسية تثبت قطعا أن المرشحة الديمقراطية الخاسرة، هيلاري كلينتون، فازت على ترامب بقرابة ثلاثة ملايين صوت، شعبيا، على الرغم من فوزه هو بأصوات "المجمع الانتخابي" الذي جعل منه رئيسا، إلا أنه ومعسكره ما زالا يصرّان على أنهما فازا بالأصوات الشعبية، لو لم يصوت ملايين المهاجرين غير الشرعيين لصالح كلينتون، وهو ما تنفيه كل الأدلة، ويرفضه حتى الجمهوريون، ومع ذلك ما زال حبل الكذب مستمرا، أو إن شئت القول "الحقائق البديلة".
ليس منطق "الحقائق البديلة" حكرا على معسكر ترامب، ولا هو محصور في هذا المعسكر، فكل ما فعله الأخير أنه أعطى الكذب اسما جديدا، فها هي وزارة الدفاع الأميركية تعرض شريط فيديو قديماً يعود إلى أكثر من عشر سنوات دليلاً على نجاح عملية مزعومة ضد الإرهاب، نفذتها قوة أميركية خاصة، أواخر الشهر الماضي، في اليمن. وقبل ذلك، قدّمت الولايات المتحدة، تحت إدارات متعددة، "حقائق بديلة"، فإدارة بيل كلينتون لجأت إلى "الحقائق البديلة" لقصف السودان في أغسطس/ آب 1998، ردا على تفجير تنظيم القاعدة السفارتين الأميركيتين في كينيا وتنزانيا، وزعمت حينها أن "مصنع الشفاء للأدوية" في الخرطوم بحري، وهو أحد الأهداف التي تمّ استهدافها بصواريخ كروز الأميركية، كان يُصَنِّعُ غاز الأعصاب، وله صلة بزعيم القاعدة، السابق، أسامة بن لادن، إلا أن مسؤولين في إدارة كلينتون نفسها، عادوا واعترفوا لاحقا بأنهم اعتمدوا على أدلةٍ غير موثوقة، ليتضح، فيما بعد، أن قصف
السودان كان مرتبطا، من ناحية، بسعي كلينتون إلى تشتيت الانتباه عن فضيحة العلاقة الجنسية التي جمعته مع المتدربة في البيت الأبيض، مونيكا لوينسكي، والتي كانت تتفاعل في ذلك الوقت، ووصلت إلى حد محاولة عزله من الكونغرس. أيضا، لم تكن "الحقائق البديلة" غريبةً على إدارة جورج بوش الابن، فقد غزا العراق بناء على أساسٍ منها. ولن ينسى العالم العرض الذي قدمه وزير الخارجية الأميركي الأسبق، كولين باول، في فبراير/ شباط عام 2013، في مجلس الأمن الدولي، وقدّم فيه ما زعم أنها حقائق تثبت امتلاك العراق أسلحة دمار شامل. وبناء على ذلك العرض، غزت الولايات المتحدة العراق الشهر التالي، ليثبت بعد ذلك كذب كل تلك المزاعم، وبأنه تمَّ فبركتها عن سبق إصرار وترصد. وكذلك الأمر تحت إدارة أوباما، فنحن نعلم اليوم أن "الحقائق البديلة" كانت منطقا سائدا في تحديد وتعريف ضحايا غارات الطائرات دون طيار في اليمن وباكستان وأفغانستان.. إلخ، والذين كان أغلبهم من المدنيين الأبرياء.
إذن، "الحقائق البديلة" صيغة جديدة للكذب، مارستها إدارات أميركية كثيرة، إن لم يكن كلها، وكل ما فعلته إدارة ترامب أنها أعطتها التوصيف المضلل الذي لا يعبر عن جوهرها. ولكن "الحقائق البديلة" ليست حكرا على الولايات المتحدة، إنها ممارسة نراها في العالم أجمع، بما في ذلك في فضائنا العربي، بل إننا أساتذة في الموضوع. ففي مصر، مثلا، تَمَّ ترتيب انقلاب شهر يوليو/ تموز 2013، عبر توظيف "الحقائق البديلة". تُرى، هل نسينا دور المخرج خالد يوسف في تصوير مظاهرات الثلاثين من يونيو/ جزيران 2013 ضد حكم الرئيس محمد مرسي، لإقناع العالم بأن ما يجري ثورة شعبية وليس انقلاباً عسكرياً؟ المشكلة، أن يوسف، وفريقه، صوّروا المظاهرات من طائرات عسكرية، وبالغوا في التلاعب في أعداد المتظاهرين لإعطاء شرعية للانقلاب. إنها مرة أخرى "الحقائق البديلة"، أو الكذب البواح الذي لا يعترف به السياسيون إلى أن جاء معسكر ترامب، لينقذهم من ورطة الاعتراف بالكذب، عبر سكّ هذا التوصيف الخبيث.